بعد الانتهاء من مشاهدة وقائع الاجتماع الذى دعا إليه الرئيس مرسى القوى السياسية لمناقشة أزمة سد «النهضة» الإثيوبى، انتابنى شعور عميق بالقلق على مصر ومستقبلها بالرغم مما اتسم به اللقاء من فكاهة على هذه الخيبة الناقعة والفيلم الهابط الذى شاهده، وعلى الهواء مباشرة، الملايين داخل مصر وخارجها.
وتذكرت أحد المشاهد العبقرية للمخرج داود عبدالسيد من فيلم «الكيت كات» بطولة محمود عبدالعزيز الذى قام بدور الشيخ حسنى «الضرير» الذى لا يعترف أبداً بعاهته، فيتصرف فى حياته كشخص طبيعى مُبصر، والنتيجة كانت كل المصائب التى وقع فيها وأوقع فيها من حوله لمكابرته وعدم اعترافه بعجزه، والمشهد الذى أعنيه حين كان الشيخ حسنى يمارس عادته وهوايته فى النميمة مع أصدقائه بعد انتهاء عزاء أحد سكان الحارة، فاسترسل فى حكاياته وحكى للحضور أسرار وفضائح أهل المنطقة، دون أن يتنبه إلى أن كلامه مذاع على الهواء للجميع عبر مكبر الصوت الذى نام المسئول عنه ولم يغلقه فأُتيح لجميع أهل الحى الاطلاع على فضائح وأسرار لم تكن لتُعرف لولا هذا الحديث المنقول على الهواء عبر مكبر الصوت.
وما حدث فى اجتماع قصر الاتحادية يختلف عن المشهد المذكور فى أن الفضيحة لم تكن بالصوت فقط ولكن بالصورة أيضاً، ولم تكن الفضائح مقصورة على أهل الحى بل شاهدها العالم كله وليس المصريون وحدهم.
وقد بدأ الرئيس بالكشف عن أن جشع المقاول الذى يقوم بأعمال بناء السد هو السبب فى التعليات المتتالية للسد «عشان يعمل شغل»، وقبل ذلك أعجزنا بعمليات حسابية متتالية يعجز أكبر علماء الرياضيات عن متابعتها، حيث قال: «السد العالى يساهم تقريباً فى الكهرباء بتاعة مصر بـ2 آ بــ2000 بــ2 جيجا بألفين ميجاوات بالنسبة لتقريباً 27 ألف ميجاوات، يعنى 2 بالنسبة لـ27، أحياناً الـ27 تبقى 25، تبقى 23 حسب الصيف والشتا، لكن تأثيره، تأثير السد العالى، فبالنسبة التى تقال فى تأثير الكهرباء أو سد النهضة على توليد الكهرباء فى مصر على السد العالى اللى هو يمثل لو خدنا المتوسط 15% من كهربة مصر من 2 من الــ26 من الـ27 من الـ25 فـ2 على 25 فى 15% هو ده نسبة التأثير اللى تطلع تقريباً يمكن أقل من.. هه؟ لا لا.. احسبها كويس. اقسم 2 على 27 واضربها فى 15 على 100، 8%؟ وتضرب 8% فى 15% تطلع كام؟ 1.2 على طول».. هذا ما قاله الرئيس حرفياً والتسجيل موجود، فهل فهمتم شيئاً؟
ثم أتى دور السياسيين الذى لبّوا الدعوة وتحدثوا فاكتشفنا أن معظمهم له خبرة مخابراتية وعسكرية واستراتيجية كبيرة تفوق بالقطع خبراتهم فى السياسة.
وتبارى الحاضرون فى استعراض قدراتهم المخابراتية ودهائهم فى وضع الخطط السرية. ونظراً لإحكام هذه الخطط الجهنمية فإنهم لم يجدوا حرجاً من إذاعتها على الهواء مباشرة لثقتهم فى أن ما وضعوه من خطط سيعجز عن مواجهته الأعداء حتى ولو علموا به مسبقاً، فتحدث أحدهم عن وجوب عمل حركات لإرهاب العدو الإثيوبى كأن يقوم الفريق السيسى بعمل جولة على الحدود مع السودان فتخاف إثيوبيا.
وقال آخر: «أنا شايف إن إحنا معندناش غير محور بتاع أريتريا الصومال جيبوتى، وده كله شغل المخابرات بقى دول اللى يخلصوا من جوه، وكله زى ما انت عارف فى أفريقيا بيتظبط». وقال ثالث إنه يجب أن «نتدخل فى الشأن الداخلى الإثيوبى لأنه مهترئ وإحنا شُفنا ده فى زيارتنا» -على الرغم من أنه لم يكن ضمن وفد الدبلوماسية الشعبية التى سافرت لإثيوبيا حتى يرى هذا الاهتراء- وأضاف أن الموقف السودانى «يقرف»، ونصح بأنه يمكن تسريب معلومات على سبيل المعلومات الاستخباراتية مفادها أن مصر تسعى لشراء نوع معين من الطائرات لتزويد الطائرات بالوقود فى الجو و«هذا بالضغط إن لم يكن واقعى فإنه هيوصّل نتيجة فى المسار الدبلوماسى».
وبعد سماعنا لهذه الأحاديث، ألا يحق لنا أن نسأل عن مصير الألف طن حشيش التى أعلن الرئيس عن ضبطها خلال الأربعة أشهر الماضية؟ وهل تمت مصادرتها بالكامل أم أن بعض هذه الأطنان قد تسربت؟ وقد أعلن السيد أيمن نور أنه لم يكن يعلم أن اللقاء مذاع على الهواء، ألم يلاحظ وجود كاميرات للتصوير وله خبرة عريضة فى الأحاديث التليفزيونية؟ وكأن الخطأ لم يكن فى كلامه وإنما كان فى وجود الكاميرات.
وأظن -وبعض الظن من حسن الفطن- أن الرئاسة قد أرادت توصيل رسالة قوية للشعب بأن هذا هو مستوى تفكير البعض ممن يدّعون القيادة فى عالم السياسة.. أرادت الرئاسة أن تفضحهم أمام الشعب وتحرق أوراقهم. وقد تم ذلك بنجاح. وأظن أيضاً أن إثيوبيا الآن قد اطمأنت تماماً بعد أن انكشف لها، وعلى الهواء، المستوى الضحل لتفكير من يدّعون أنهم من كبار الساسة فى مصر، خاصة أن رئيس الجمهورية كان يرأس الاجتماع بنفسه، فهل فى مصر مستوى أعلى من رئاسة الجمهورية؟ ثم ألا يحق لإثيوبيا أن تتخذ من هذا الحوار مع رئيس الجمهورية ذريعة ودليلاً على نوايا مصر السيئة والعدوانية تجاهها؟
لقد أظهر هذا الحوار مدى الخيبة الثقيلة والناقعة لكيفية تسيير أمور تتعلق بالأمن القومى المصرى، وكذلك مدى الفشل والسذاجة «والوكسة» للبعض ممن يتصدون لقيادة العمل السياسى فى مصر. ومن هنا فقد آن الأوان لنسف دولة العواجيز وتنحيتهم عن قيادة العمل السياسى وأن يتولى أمور مصر شبابها الواعد معقد الأمل والرجاء بإذن الله.