فى يوم عيدك أمى، تسألنى صورتى المعلقة فى بيتك والساكنة فى قلبك، كما سألت الراحل محمود درويش: أأنتَ ما زلتَ أنتَ أم أنتَ لم تعد أنتَ؟ كم أنت أنت، ولا تشبه أنت؟
لماذا أنتَ الغائب دائماً... صاحب الحقائب دائماً... ما أن يحط بك الرحال إلا ويشده آخر؟! أأنت انتظار أم حل وترحال؟! أأنت البراءة بعينها أم الخبرة بآلامها؟! أأنت مشروع حضور أم عنوان غياب؟
لماذا ارتضيت صحبة الغرباء، وارتضيت أحضان أُم لم تولد من رحمها؟!.
وأنا أجيب: يا صورتى، حملنى الطريق دون أن أدرى... وسكنتنى الغربة وسكنتها دون أن أختار. آه يا صورتى لو تعرفين كم هى قاسية غربة الأسفار وكيف تكون ليالى الشتاء الطويل والبرد والصقيع بعيداً عن أحضان أمى الدافئة الآمنة؟
يا صورتى.. مع كل رحلة عودة وبعد كل عودة رحلة، يتجدد الحلم ثم تبدأ من جديد أسفارى وترحالى. لأكون الحاضر رغم الغياب.. لم أعد أعرف هل أنتِ كما أنتِ؟ أم أنك لست صورتى؟ أبحث فى بقاياك وأسأل ما تبقى منك ولم يأكله تعاقب السنين، علنى أجد الجواب... ولدتنى أمى من رحمها ذات مساء، وفى الإصباح حملتنى الرياح العاتية، وألقت بى فى مفترق الدروب، وأوجعتنى شواهد الترحال وجراح الأيام وصنائع البشر وأشباه البشر، واليوم أقف أسيراً وحائراً وثائراً وما زلت مسافراً.
تسألنى صورتى من جديد وفى حزن شديد أين صلواتك؟ ابتهالاتك فى الفجر والسَّحَر؟ أين وترياتك؟ أين حبات التسابيح مع الإشراق، رفقة الحجاج والمعتمرين فى مسالك العارفين؟ أين وألف أين تهزنى حين تقول لى صورتى: يا صاحبى هل احتميت بدثار الغرباء، وأعجبتك الرحلة؟ لماذا أنت لم تعد أنت؟
وأنا أجيب بدمع غزير وصمت طويل ونفس حبيس.. يا صورتى، كانت عينى ترقب الأرض والأخرى نحو السماء ترى أحلامى مع السحاب، فأخذتنى رياح عمياء ووعدتنى أملاً ومجداً، اليوم وجدته سراباً وكمداً... ولكنى ما زلت فى السباق حياً... عازماً على اللحاق... مشتاقاً وتواقاً إلى وجه أمى وقلب أمى وصوت أمى... يحدونى الأمل... ما زلت أرقب ضفة النهر... وأغازل ماء النهر... وأحلم بأن يأخذنى إلى الغدير الصافى هناك وأعانق الغمام... من يدرى يا صورتى فقد أعود يوماً... قد يحتوينى الغدير بعد طول سفر وفراق وغربة واشتياق...
يا صورتى... ما زلت أراهن على مراكبى... أشرعتى... على قاربى المثقل المتعب... رغم الشطآن المهجورة والآلام المغمورة والأرض اليباب وافتقاد الأحباب... يبقى الأمل بعد كل ألم لأن الميم حتماً للام سابقة. لقد سابقت الزمن... وسبقنى... ولكن ما زال للقدر كلمته... ورغم الغياب سيبقى دعاء ورجاء أمى فى وصال، والقمر مراقبٌ والنجوم حنايا، ومداد كلماتى لن ينقطع على مر الأيام.
يا صورتى... دعينى ألقى عليك قول الفصل المبين... وقالها من قبل أبوتمام... لا أنت أنت ولا الديار هى الديار... يا صورتى... الغائبان فى يوم عيد أمى أنا وأنتِ... أنتِ فى بيت أمى، وأنا غريب فى بيتٍ بين الشطآن... طوبى للغرباء.
يا صورتى.. فى عيد أمى: أفصحى لها عن شوقى ولهفتى، عن حبى ومودتى، كونى البوح والوعد والميعاد والذكرى والأمل والعودة واللقاء بعد طول افتقاد، اهجرى صمتك الأبدى ومع كل إصباح ذكرى أمى بأن عيدك فى القلب أخضر وحاضر رغم غيابى، وأن ميلادى وعنوانى ومكانى سيظل دائماً عنوانك أماه رغم ترحالى... اجعليها قولاً واحداً: عيدك أنتِ أمى هو عيدى لأنك أصل وجودى وصدى أشواقى وشذا عمرى وعبق حياتى ونور دربى وحروف هويتى ونبض قلبى وقلمى...
كل عيد يا أمى وأنت العيد.