- أصعب لحظة على الإنسان فراق أمه، وأشق لحظة عليه أن يفجع فجأة بأنه سيعيش دونها، وأن البيت قد خلا من نوره الكبير «الأم» وأنه سيعيش دون الصدر الحنون، وسيفقد مصدر الحب الخالص الذى لا منَّ فيه ولا مصلحة أو مقابل، سيفقد المستشار الأمين، والحكيم العظيم حتى وإن كانت أمه أمية.
- لحظات فراق الأم هذه عاشها الجميع ولكن الشعراء فقط هم أفضل من عبروا عنها وأعظم من جسدها حية نابضة، وأفضل هؤلاء الشعراء من وجهة نظرى هشام الجخ وعبدالله حسن، وكلاهما أبرز قصة فراقه لأمه من زاوية مبدعة تختلف عن الآخر.
- فالجخ كتب أروع قصيدة بعنوان «طبعاً ماصليتش العشاء عن أمه الناظرة ثم المفتشة فى التربية والتعليم وقسمها بحسب تطورات حياته مع أمه إلى خمس مراحل أقواها جميعاً الجزء الخامس الذى يحكى فيه مباشرة بطريقة رائعة وباكية ومبكية قصة مرضها ووفاتها حيث يبدع قائلاً:
كل الدكاترة قالوا لى خير.. ما عندهاش ولا أى حاجة.. ولا حتى محتاجة لدوا.. ما إحنا عارفين شهر مارس والهوا.. السن برضه ما تنسهوش.. شوية برد ما يستاهلوش.. أول مرة أشوف حبيبتى بتتلوى وبتتوجع.. وأنا عارف أمى.. ما تشتكيش غير م القوى.
- ثم يمازح أمه حتى فى هذه اللحظات العصيبة من مرضها فيقول لها: «عجزت يا أمه وشاخ جريدك.. د أنت لسه ماسحة الشقة بإيدك.. عجزت فجأة.. ده إحنا كل جمعة نبوس إيديكى عشان نوضب شقتك وتقولى لأه.. عجزت فجأة.. ومالك ابيضيتى ليه.. ياك حاطة بودرة.. ما أنت كنت زيى سمرا.
- ثم يبدأ هاجس وفاة والدته يحطم رأسه فيقول: لأول مرة أحس دماغى بتشقق تفكيرى بيعمل صوت.. ما صدقتش ولا اتخيلت وانا واقف فى ساعتها إنه الموت.. رسمت الضحكة بزيادة.. دخلت عليها عارفانى أنا الكذاب كالعادة.. ومين يقفشنى غير أمى.. اللى عاجنانى وخابزانى وخالعة بيدها سنانى.. فعرفت بس من عينى إنها شهادة.. وشهدت ييجى 100 مرة.. ساعتها كل إحساسى اللى كان محبوس طلع بره.. وهاجت ذكريات عبت عينيا دموع».
- ثم يسترجع أجمل ذكرياته معها، وماذا فاته ولم يقله لها، وماذا فاته من برها والوفاء لها وهذه أقوى فقرة فى القصيدة كلها: كانت باصة لى فى عينيها السنين بتفوت.. وجوايا كلام من كتره عدَّا سكوت.. كان نفسى أقول آسف وأقول ندمان وأقول خجلان.. وأقولك إنى والله بحبك حب مش معقول.. معرفتش ساعتها الحلق كان مقفول.. لكن القلب كان مفروض على قلبك وكان بيقول.. بكل حروف كتاب الله اللى حفظها على إيديك.
- ثم يفاجأ بسكرات الموت فيندم على تقصيره، وأعظم شىء فعله هشام الجخ فى هذه القصيدة فضلاً عن بر أمه وتخليدها أنه بنى قصيدته على أهم توجيهات أمه وهى «ممنوع تناموا قبل ما تصلوا العشا» فأوصت بأعظم صلة بين الله وعبده وأهم فريضة فى الإسلام «الصلاة».
- أما الشاعر المبدع عبدالله حسن فقد أفاق فجأة من غفلته مع أمه على قرعات ملك الموت على باب أمه الحبيبة وهو يرجوه أن يتمهل قليلاً حتى يبرها ويعوض ما فاته: فاق لأول مرة يفهم معنى «أم».. يعنى إيه التضحية.. ياخدوا عمرى منى بس آخر أمنية.. يا ملاك الموت تمهل.. لسه أنا فى عينيها عيل.. سيبها بكرة.. سيبها بعده.. سيبها أسبوع.. سيبها شهر.. سيبها عمر.. سيبها لسه.. سيبها أرجوك.. سيبلى فرصة.. نفسى أسمع تانى «يا ابنى».
- ثم يعبر الشاعر عن حزنه أنه لم يسمع وصايا أمه وهو صغير فينطلق باكياً حزيناً قائلاً: اللى ما قالتهوش أمى ليّا هو أكتر شىء تاعبنى، ويتذكر قصته مع أمه: «كنت ليه دايماً أنانى.. كانت تعاتبنى بحزن.. يا ابنى محتاجة لسندة.. بص شوف الشعر شايب.. أيوه بيتى كان لوكاندة.. عشت فيها واكل وشارب.. عمرى ما اهتميت بحاجة.. أمى تفتح أمى تقفل.. أمى تمسح أمى تغسل.. أمى تطبخ أمى تغزل.. أمى تعمل كل حاجة.. أمى حصالة الوجع.. أمى قبل النوم بتدعى.. مش عشانها كان عشانى.. ابتدى إحساس يصحى.. السنين على الوش واضحة.. رعشة الإيد اللى شالت والكلام ممزوج بكحة.. زى شجرة عشان تضلل الغصون لازم تميل.
- ندم الشاعر على تقصيره فى حق أمه وأدرك أنه لم يفهمها أو يدرك قيمة أوامرها التى ظنها قيوداً تأسرها: شفتها فى طلعة شبابى قيد وخنقة.. لما بتأنبنى أشوح.. كنت أدور وشى «أف».. ماما مش وقتك سبينى.. انتهينا خلاص كبرت.. اتاخذت فى سكة تانية.. زهقت من لعبك معايا.. زهقت من خوفك عليا.. وخوفها لما الليل يليل.. كانت تبص بعين حزينة.. كانت تقولى لسه برده فى عينى عيل.. أمى ما سمعتش منى طول حياتها إلا «عايز».