يصعب أن تجد إنساناً يتحرك فى أى موقف من مواقف الحياة بلا هدف واضح، سواء كان واعياً بهذا الهدف أم لا. وبديهى أن نقول إن الدكتور «محمد مرسى» وضع لنفسه هدفاً أساسياً منذ اللحظة الأولى التى دخل فيها قصر الرئاسة، يتمثل فى الاستمرار فى الحكم حتى تنتهى مدة ولايته المحدّدة بأربع سنوات، ومع خروج المستشار «فاروق سلطان» -بخائه الفخيمة الشهيرة- معلناً فوز الدكتور «محمد محمد مرسى عيسى العياط» بالرئاسة، راهنت على أنه لن يُكمل مدته، ومع مرور الوقت، وتبلور معالم أداء وملامح خطوط شخصية الرئيس الجديد بصورة أكثر وضوحاً، بدأت «أتمطع» أكثر وأكثر، وأراهن على أن آخره مع الحكم هو عام 2013، وأن من الصعوبة بمكان أن يعبر إلى العام 2014، فقد يتحول «مرسى» مع مطلع العام المقبل إلى مجرد ذكرى أو شاهد على فترة عجيبة من تاريخ ثورة 25 يناير، قذفت بمثله إلى كرسى رئاسة مصر!
سوف يرحل «مرسى»، لأنه لم يسأل نفسه ثلاثة أسئلة رئيسية، قبل أن يضع لنفسه هدف الاستمرار فى الحكم لمدة أربع سنوات. تتحدّد هذه الأسئلة فى: هل يمتلك «مرسى» القدرات أو المؤهلات التى تمكّنه من ذلك أم لا؟ وهل المعطيات التى بُنى عليها هذا الهدف تشكل أساساً متيناً لمعادلة «الاستمرارية»؟ وهل المناخ العام فى مصر يمكن أن يسمح له بالاستمرار؟. أكاد أجزم أن «مرسى» لم يطرح على نفسه سؤالاً واحداً من هذه الأسئلة. فكان مثله كمثل مواطن دخله فى الشهر ألف جنيه، فكّر فجأة فى أن يضاعف هذا الدخل مائة مرة ليجعله 100 ألف جنيه فى الشهر، ولم يقف ليسأل نفسه: هل لديه المهارات أو الإمكانيات التى تؤهله لإحداث هذا التحوُّل الخطير فى مستوى معيشته؟ وهل معطيات حياته تسمح بذلك؟ وهل الظروف المحيطة به يمكن أن تُيسر له تحقيق هذا الهدف؟. لو كان هذا المواطن عاقلاً لتواضع قليلاً وقال: أريد أن أضاعف دخلى فى الشهر ليُصبح ألفين بدلاً من ألف واحدة من الجنيهات، هنالك كان سيجد من ينصحه بأن يضاعف جهده، ويزيد من حجم اجتهاده فى الحياة، ليصل إلى هذا الهدف، أو ليُحقق نسبة معقولة منه فى أقل تقدير، لكنها فى كل الأحوال حكمة الحياة التى تدفع كل إنسان إلى التبرُّم من رزقه، فى حين يعجب أشد الإعجاب بعقله!
يبنى الدكتور «محمد مرسى» معادلة «استمراريته» فى الرئاسة حتى تنتهى مدته الدستورية على خمسة عناصر أساسية: العنصر الأول: إرضاء الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، والثانى: التمكين لجماعة الإخوان، والثالث: الإطاحة ببعض فلول الفساد فى العهد البائد، والرابع: التعاون مع شريحة من فسدة النظام السابق، والخامس إرضاء الشعب. تلك هى العناصر الخمسة التى يستند إليها «مرسى» فى بناء معادلة «استمراريته». ولا يصعب على أى متأمل لها أن يكتشف مدى تهافُت وفساد كل عنصر منها. فسعى «مرسى» إلى إرضاء الولايات المتحدة وإسرائيل يصطدم بعقبة كؤود، تتمثل فى جملة تصريحاته العنترية التى سبق و«طنطن» بها فى لحظات لم يكن يدور بخلده فيها أنه سيُصبح رئيساً لمصر، مثل تصريحات «القردة والخنازير» فى وصف اليهود، و«الأمريكان» الملاعين الذين يدعمون إسرائيل المعتدية على الفلسطينيين. لقد حدثت المعجزة وأصبح «مرسى» رئيساً لمصر، وقد علّمته جماعته أن إرضاء أمريكا وإسرائيل شرط أساسى من شروط الاستمرار، فوجد نفسه مضطراً إلى الحديث بمنتهى الإيجابية عن الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة الأمر والنهى فى استمراره، وأصبح فى موقف يُحسد عليه، وهو يصف رئيس إسرائيل بـ«الصديق الوفى»، ويتمنى للشعب الإسرائيلى كل الأمانى الطيبة! ومع هذا التحوُّل أُصيب الكثير من المصريين بحالة «قرف» سريع من الرئيس الجديد الذى بدا مثل «سلفه» ذيلاً من ذيول أمريكا وخادماً مطيعاً لها فى حماية ربيبتها «إسرائيل»، هنالك انقطع أحد خطوط الصلة بينه وبين المصريين، وفى الوقت نفسه اهتزت ثقة الأمريكان والإسرائيليين فيه، خصوصاً بعد أن اجتهد الإعلام الغربى فى إبراز تصريحاته النارية السابقة ضد أمريكا وإسرائيل، وبدأ هذان الطرفان ينظران إليه على أنه شخص غير موثوق فيه، فتقطّع خيط جديد من الخيوط التى تربطه بكرسى الرئاسة، وقد ظهرت أمارات ذلك فى التحوّل الواضح فى الموقف الأمريكى تجاه أدائه على كرسى الرئاسة.
نأتى بعد ذلك إلى عنصر «تمكين الجماعة» الذى سعى إليه «مرسى» منذ أن اعتلى سُدة الحكم، رغم زعمه المتواصل فى خطاباته الأولى أنه «رئيس لكل المصريين»، فكان أن قذف بإخوانه فى كل الاتجاهات: فى الوزارات، والمحافظات، وداخل مجلس الشورى، والقضاء. وفى كل الأحوال أثبتت العناصر الإخوانية التى دفع بها «مرسى» أنها محدودة القدرة، وعاجزة عن النهوض بأعباء الحكم، كلٌ فى موقعه، يكفى فى هذا السياق أن نستشهد بأداء وزير الإعلام الذى لا يعرف كيف ينتقى ألفاظه، رغم أن شغلته هى التواصل باللغة، ونائبه العام الذى نسى -أو تناسى- أن يطعن على الأحكام الصادرة ببراءة المتهمين فى موقعة الجمل، والمشكلات المتوالية التى يسبّبها له عصام الحداد مساعده للشئون الخارجية فى الكثير من الملفات، ناهيك عن الإحراج المستمر الذى يسبّبه له أمثال «البلتاجى» و«العريان» ومرشده الحالى والسابق. وفى كل الأحوال يدافع «مرسى» عن إخوانه، لأنه يعتبرهم القوة التى جاءت به إلى الحكم، وهو يظن أن غضبهم عليه أخطر من غضب الشعب، وهو الأمر الذى دفع باقى طوائف وقوى الشعب إلى فتح أفواههم عن آخرها لمضغه هو وإخوانه. وقد ظهرت أمارات ذلك فى محاصرة قصر الاتحادية، حيث ولد هتاف: «يسقط يسقط حكم المرسى»، وحصار مكتب الإرشاد حين تعالى هتاف: «يسقط يسقط حكم المرشد».
ننتقل إلى «الفلول» ويُقسّمهم «مرسى» إلى قسمين، قسم يريد الإطاحة به، وقسم يريد التعاون معه حتى حين. ويتحدّد قسم الفلول الذين يريد «مرسى» التخلص منهم، فى إطار القيادات العسكرية وشيوخ القضاة، بالإضافة إلى كبار المسئولين بمؤسسات الدولة. هؤلاء جميعاً يعلمون ما يُخطط له «مرسى»، ويكيدون له فى المقابل، والمؤكد أن فى جرابهم الكثير من الألعاب التى يمكنهم مفاجأته بها فى أى وقت. وهم يعلمون -كما يعلم «مرسى» أيضاً- أن مركب المحروسة لا تسعهما معاً، وأن الأمر سوف ينتهى حتماً إلى تخلص طرف منهما من الآخر، والأرجح أن الفلول أقدر على حسم الموقف، لأنها ما زالت تسيطر على مؤسسات الدولة، فى الوقت الذى يعجز فيه «مرسى» عن ذلك تماماً، يُضاف إلى ذلك أن «مرسى» يفشل باستمرار فى محاولات الاستقواء على هذه القيادات بالقواعد العاملة داخل مؤسسات الدولة، لأنها تفهم جيداً أن «مرسى» لا يريد الإصلاح وتخليصهم من الفساد، قدر ما يريد وإخوانه وراثة المفسدة! تعال -بعد ذلك- إلى الفلول الذين يُرحّب «مرسى» بالتعاون معهم. هذان الطرفان يتعاملان معاً بمنطق «نتعامل معاً، واللى فى القلب فى القلب». فالفلول المتعاونون يعلمون أن «مرسى» يمكث فى انتظار اللحظة التى يستطيع فيها تمكين إخوانه فوق رقابهم، وفى الوقت نفسه يفهم «مرسى» أن هاتيك الفلول تتعاون معه فى حدود معينة وبصورة مؤقتة، انتظاراً لأى تعديل أو تحوُّل فى الظروف، وأنهم لا ينسون أبداً أنه آكل أكباد «معلميهم» الكبار!
العنصر الخامس هو الشعب.. ذلك الرقم الخطير فى معادلة الحكم فى مصر بعد ثورة 25 يناير، يحاول «مرسى» إرضاءه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لكنه أبداً لا يستطيع. فليس «مرسى» بالرجل الذى يمكنه ذلك، إنه حتى لا يُجيد «تجميع» بضع كلمات يخاطب بها الناس، وما أكثر ما تتحول عباراته إلى مادة للسخرية الشعبية، هذا فى أتفه الأمور، فما بالك بالحال، حين يتصل الأمر بالفشل الذريع لـ«مرسى»، فى حل المشكلات الاقتصادية المتفاقمة للمواطن، إنه لم يفلح حتى فى الاحتفاظ بدرجة معاناة المواطن -عند مستواها- خلال المرحلة الانتقالية أو أيام «المخلوع»، بل صعد بالمعاناة إلى سابع دور، ولولا «الحرمة» لألقى المواطن بنفسه من فوقه! فمن السولار، إلى الدولار، إلى الاحتكار، إلى ارتفاع الأسعار، أصبح الناس سُكارى وما هم بسُكارى، ولكن فشل «مرسى» شديد! لقد جهل الدكتور طبيعة المناخ السائد فى مصر وقت أن تولى رئاستها، ولم يفهم أننا نعيش «مناخ ثورة» ليس هو بصاحبها، بل لها أصحاب أصلاء، يقاومون عملية دهسهم تحت عجلة الأخونة، ولأن «مرسى» وجماعته أكلا «سُحتاً» من الثورة، فقد بادر غيره من المواطنين -سواء شاركوا أم لم يشاركوا فى هذه الثورة- إلى المطالبة بمكاسب هم الآخرون. الكل الآن يطلب و«مرسى» عاجز عن منح أحد شيئاً، لأنه لا يعطى إلا أفراد جماعته، لذلك كان من الطبيعى جداً، أن تبادر الملايين إلى التمرُّد والتوقيع على سحب الثقة منه لأنه عاجز، وتصرخ بأن عليه أن يحمل عصاه «أى إخوانه» ويرحل.
سيرحل «مرسى» لأن معادلة «استمراريته لا تستقيم. واستمراره يتطلب معجزة، وزمن المعجزات ولى، أو صدفة عمياء تساعده على البقاء، وذلك هو المستحيل بعينه. ذات يوم سمعت الدكتور «مصطفى محمود» -رحمه الله- يرد على فيلسوف يزعم أن الكون ليس له خالق، وأنه نشأ بمحض الصدفة، فرد عليه قائلاً: «نفترض أن طفلاً جلس على جهاز كمبيوتر، وأخذ يُخبّط على لوحة مفاتيحه، هل يمكن أن ينتج كلمات ذات معنى؟ سنفترض أنه فعل ذلك وكتب كلمات، وسنفترض ما هو أبعد، ونقول إنه استطاع أن ينتج جملاً ذات دلالة، وبناء على ذلك نسأل هل ينتج ذلك الطفل رواية تماثل واحدة من روايات شكسبير؟!». لو صح أن خبط الطفل يمكن أن يجعل منه «شكسبير» فسأقبل فكرة أن «مرسى» سوف يُكمل مدة ولايته.. لذلك أقول: «سيرحل»!