17 ساعة فى قطار من الجيزة إلى أسوان: يا مقبل ع الصعيد
17 ساعة فى قطار من الجيزة إلى أسوان: يا مقبل ع الصعيد
على رصيف محطة الجيزة وقف الجميع فى انتظار القطار «العادة» كما يعرفه الأهالى، و«المطور» كما تسميه هيئة السكة الحديد، حزموا حقائبهم وأمتعتهم، كراتين وأجولة تتراص أمام جمع عظيم من أصحاب الجلابيب الجنوبية، هبوا مسرعين بمجرد أن ظهر ضجيج القطار يصدح فى جنبات المحطة، مع تنبيه المذيع الداخلى برقمه ناعته بـ«المميز»، دخل القطار المحطة يضج بالركاب، لم يكن هناك موضع قدم، جميع المقاعد استقر عليها أصحابها، ولم يبق لركاب الجيزة، بداية خط الصعيد، سوى الطرقات وأطراف الكراسى، وانتظار من سيغادر سريعاً.
حوار عن مواجهة الإرهاب يتحول إلى معركة بين خصمين يحاول كل منهما أن يدافع عن دينه ويثبت أنه الحق وما سواه باطل
من داخل القطار ومن نافذته المهشمة، رصدت «الوطن» خلال رحلة امتدت لـ«17 ساعة» كاملة، بين قرى محافظات الصعيد من الجيزة لأسوان، مر خلالها القطار بـ«55» محطة، وكان فيها ملاذ آمن لكل المهمشين من أهل الصعيد ليناقشوا قضاياهم بأريحية، ليشغلوا الوقت الطويل، داخل ذلك القطار بأحاديث وروايات تنضح بما آل له صعيد مصر، رصدت تلك المشاهدات خلال معايشتها لرحلة القطار، لترصد وتقف عند معاناة أهل الصعيد وأوجاعهم.
داخل القطار جلبة كبيرة أحدثها تداخل المنتظرين مع ركاب محطة رمسيس المستقر الأول للقطار، الركاب الجدد الكل يبحث عن شبر وقبضة يريح فيه جسده المتعب، فى الوقت الذى يستقر فيه الركاب القدامى بكل أريحية على المقاعد دون أن يعبأوا برغبة المقبلين، شباب يفردون أرجلهم على كرسيين، شاب لم يرحم الشعر الأشيب لرجل ظل يطالبه بعصبية مفرطة أن يزيح قدمه المستقرة على أحد المقاعد كى يستريح، وآخر قرر أن يحجز لزميله المتأخر مقعداً ولا يسمح لأحد بالاقتراب منه، وسيدة عجوز، بملابسها السوداء تلقى بجسدها المعطوب على مقعدين وتخلد فى ثبات دون اهتمام بالمارين الذين يتفحصونها فى تعجب.
قال لجاره فى المقعد: «النيابة التى ترغب فى الالتحاق بها ليست لأمثالنا».. وظل يسرد حكايات عن أهل قريته الفقيرة الذين تعلقوا بالحلم
فى كل عربة كان هناك من يبحث عن راكب العياط، همس أحدهم، يبدو عليه أنه متمرس فى العيش داخل ذلك القطار، فى أذن محرر «الوطن»، قال له: «ابحث عن راكب العياط وقف إلى جانبه» وكأنها كلمة سر.. هنا أصبح الكل يبحث عن راكب العياط ولا أحد يجيب، يقف الرجل الجنوبى بجلبابه والعرق يتصبب من جبهته السمراء، ويقول بملء فيه: «يا جماعة مين نازل العياط، ولا أحد يجيب»، ظل السير فى ممرات القطار مهمة شاقة، والعبور من عربة لأخرى مهمة أكثر شقاء، أصحاب الجلابيب الجنوبية، افترشوا الأرض بين العربات ليجلسوا، والبعض الآخر فرد جسده مستلقياً على الأرض غير مهتم بتلك المياه التى تتسلل من المراحيض نحو ملابسه، وتلك الرائحة العنفة التى تستقبلك بمجرد المرور من بين عربات القطار.
أجساد بشرية أخذت مضاجعها موضع الحقائب فوق رؤوس الركاب، وآخرون سبقوهم لا يزعجهم سوى صوت مكابح القطار حين التوقف فى إحدى المحطات التى يمر عليها بين آن وآخر، يقلبون نظرهم فى تأفف بين الوجوه الجالسة تحت قدميهم، ويعودون مرة أخرى للنوم فى أعلى نقطة بالقطار.
يعتبر ركاب القطار أن المتخلين عن وقارهم القابعين فوقه الأكثر حظاً، فكانت تلك المساحة الحديدية المنبسطة أكثر راحة لأجسادهم، من تلك المقاعد المغطاة بطبقة هشة من الإسفنج، التى تكاد لا تكون موجودة، وعليك أن تغير من موضعك بين الحين والآخر فوقها، لكى تهنأ بجلسة بدون أوجاع.
شاب مهندم الملبس وجد ضالته فى صديق حسن الحظ وجد مقعداً فارغاً وجلس عليه، وقف إلى جواره يتندر معه على حال القطار، ويذكره بفيلم «ساعة ونص» الذى كان يتناول حال ذلك القطار البائس، ولكن تبدل وجهاهما الضاحكان بوجوم بعدما تذكرا ما آل إليه القطار وركابه فى نهاية الفيلم من مصير مأسوف.
بعد عشر دقائق من المسير توقف القطار دون إنذار، لم ينزعج أحد ولم يسأل، سأل المحرر فرد أحدهم باسماً: «شكلك أول مرة تركبه.. ده بيخزن»، والتخزين وفقاً للمعنى الدارج أن يدخل القطار العادة «المميز» إلى أحد جوانب السكة الحديد ليفسح الطريق لقطار آخر من قطارات «التكييف» الفارهة.
قبل أن يستقر القطار فى محطة العياط يصيح أحدهم فى الركاب: «اللى ماسك تليفون يقفل الشباك»، ويحذرهم من مغبة المرور من محطة العياط التى ينتشر فيها السارقون يلتقطون الهواتف من أصحابها من بين نوافذ القطار المهشمة.
كانت «العياط» أولى المحطات التى استراح فيها القطار، وأراح الجميع، حيث تخلى عنه ركابه القابعون فيه من محطة رمسيس، ذوات الملابس الإفرنجية، من قمصان وبناطيل، كانوا أغلبية داخل القطار، من طلاب الجامعة والمدارس، والعمال والبائعين، ومع رحيلهم عنه بدأت تتوازن كفة أصحاب الجلابيب مع أصحاب البناطيل والقمصان.
المعاقون «خارج حسابات الهيئة».. وقاطعو التذاكر: السكة الحديد ترفع شعار «الراكب على حق».. وكل يوم مشاجرات مع المتهربين
«الشاى.. الشاى السخن» أولى الصيحات التى أطلقها أحد الباعة، ليهزم بها الضجيج الذى يملأ القطار، أخذ يمر مسرعاً حاملاً براداً عملاقاً مملوءاً بالماء الساخن، ترتفع منه الأبخرة، وتأبط أكواباً بلاستيكية، لم يكن الأخير، سرعان ما ظهر حامل الأطعمة، صاحب الفلافل، يشوق الجائع بسخونتها، يطحن أقراصها فوق أحد الأرغفة ويوزع فوقها رذاذ الماء من جوفه مع حبات التوابل.
يلتفت الجميع للخلف، يظهرون مشدوهين لأحد المشاهد فى الخلف، بائع الحلاوة يقيم فقرة فكاهية، يتحدث بجسده النحيل وصوته الأجش: «الحلاوة محشية تبن.. محشية طوب» ورغم ذلك يبدأ الجميع فى الشراء منه بعدما وزع الضحكات على شفاههم، لم يكتف بذلك بل وقف وسط القطار ليرقق صوته مغنياً أحد المواويل الفلكلورية الصعيدية، يتبعها وهو يتراقص بأحد المهرجانات الشعبية، يرحل عن القطار ولكن يظل مثاراً للضحكات وأحاديث الركاب فترة من الزمن، البعض يردد ما غناه، والبعض الآخر يعيد الموال.
غادر القطار محطة العياط، ورغم ما أحدثته من فراغات داخل القطار المزدحم، ولكن ظل الضجيج، ظلت الأصوات المرتفعة، والقهقهات والتصفيق، الشباب بملابسهم ذات الألوان الزاهية، والرجال بجلابيب صعيدية وقورة، وجنود الجيش لا تخلو عربة من وجودهم، يلقون بأجسادهم على المقاعد. كانت نقاشات الشباب المفعمة بالحماس، حول لاعبى الكرة فى أوروبا، تشتعل النقاشات تتطور وتحتد، وتصبح مشاجرات بالأيدى فى بعض الأحيان، ولكن تعود لتهدأ.
من بنى مزار، بدأت تظهر وجوه لصبية أشد سمرة، ولهجتهم أصعب للفهم، صوتهم عال، وجلابيبهم أقل أناقة، كانوا مصدر إزعاج للجميع، هدأ هدير محركات القطار، سمح لحلقات نقاشية أن تنتشر على المقاعد، كانت أكثر تلك الحلقات سخونة، حين تجمع ثلاثة من الأشخاص فى العربة قبل الأخيرة، اثنان من المسلمين وثالثهم قبطى، مهندمو المظهر، بملابس إفرنجية، ونظارات طبية كبيرة، أعمارهم تتراوح بين العقد الرابع والخامس، دخلوا فى البداية فى حوار هادئ عن المتطرفين والإخوان، كانوا متفقين لحد كبير فى جميع ما طرح خلال النقاش حول المتطرفين والإخوان والتعصب، والفتن الطائفية فى محافظة المنيا، بدأ صوتهم يبدو أعلى ليتغلبوا على ضجيج حركة القطار، تدخل أحدهم فى النقاش، رجل فى العقد السابع من العمر، جلس إلى جوارهم، وبدأ الحوار يصبح أكثر حدة، ليعلو معه صوتهم ولكن بعصبية، أخذ الرجل موقف المدافع عن الدين، والتف عدد من أصحاب الجلابيب والشباب حولهم، ليشاهدوا النقاش، تطور الأمر، ليتحول من حوار عن التطرف والإرهاب والفتن، إلى حوار متعصب متطرف يحاول كل طرف أن يدافع عن دينه أو يثبت أنه على حق، عصبية مفرطة سيطرت على المشهد، وسط سخرية من الشباب الملتفين، الذين لم يجدوا جدوى من ذلك الحوار الساخن، حتى سيطر بعض العقلاء فى القطار وأعادوا للنقاش هدوءه، ولكن لم يعد لسابق عهده، استمر الحوار المتعصب، يروى أحدهم كيف رفض المسلمون فى قريته تولى امرأة مسيحية إدارتها، وكيف ثار أبناء محافظة قنا بعد الثورة لتعيين محافظ قبطى حتى رحل.. لم يتوقف الحوار المتعصب إلا مع توقف القطار فى محطة أبوقرقاص، رحل البعض، توقف النقاش وبقيت آثاره تسيطر على المشهد داخل تلك العربة.
يحل الليل، يغوص القطار فى ظلام دامس، تختفى الخضرة التى كانت تزين المشهد، وتلهى الأعين عن القبح السائد داخل القطار، تبدو النخيل فى الظلام كأشباح تطارد القطار، أو حراس على موكب طويل لا ينتهى، هدأت وتيرة الحركة داخل القطار، لجأ الجميع للنوم، أصبحت المقاعد فارغة، ورغم ذلك لم يتخل القابعون موضع الحقائب فى الأعلى عن مضاجعهم، ومن يلقون بأجسادهم بين العربات.
فى العربة الأخيرة، تجمع بضعة من ركاب القطار، ذوو أجساد نحيلة متعبة، يبدو عليها شقاء يوم كامل من العمل، والتراب يغطى جباههم التى لوحتها الشمس، لهجتهم صعبة التفسير، بجلابيب رثة، متواضعة، يلتف حول أعناقهم شال من الصوف الأبيض، يضعون على أرجلهم عدداً من الأجولة المملوءة عن آخرها، أخذ ثلاثة منهم يروون بكل حماس لأحدهم عن قريتهم الأثيرة فى مركز ديروط، يبدو من يروون له غريباً عنهم بعض الشىء، كان جلبابه أكثر هنداماً، يفوقهم سناً، وأكثر صمتاً، كانت يستمع بإنصات لما يروونه عن مداهمة الشرطة لقريتهم، وما وجدته من سلاح فى منازل كبارات القرية، ومن فروا هاربين أمام قوات الشرطة ومن واجهوا القوات، يختلفون فى بعض التفاصيل الدقيقة، يهاجمون بعضهم البعض بعصبية مفرطة، يسب بعضهم بعضاً وسط إنصات من صديقهم الصامت، كان حديثهم مسموعاً للجميع، أزعج بعض النائمين، صحوا من نومهم ورمقوهم بنظرات خاطفة بتأفف، لم يقطع تلك الأصوات العالية سوى مكابح القطار الذى وصل لمحطة «منفلوط» أول مراكز محافظة أسيوط، ودعوا صديقهم الصامت، وحملوا أجولتهم الثقيلة، ورحلوا عن القطار.
مناقشات جانبية بين شباب الصعيد المسافرين لشغل أوقاتهم الطويلة فى السفر
لم تكن تختلف وجوههم ولا نظراتهم الساخنة المتلهفة إلى بلادهم عن نظرات بضعة جنود، بملابس مدنية، لم تظهر هويتهم العسكرية سوى من حكايتهم عن الضباط ووحدتهم، وحلم أحدهم بالعودة للمنزل، والعشاء وشرب سيجارة بعمق والخلود فى النوم على سريره الأثير، ذلك الحلم الذى يظل يراوده خلال أيام التجنيد الثقيلة. استقر القطار فى محطة أسيوط، عاصمة الصعيد، أخذ قسطاً من الراحة قبل استكمال الرحلة الطويلة، عادت الحياة لجسد القطار من جديد، وبدأ يضج بالباعة والركاب الذين تزاحموا على المقاعد الفارغة، على باب القطار أخذ شاب نحيل يودع شقيقه، ويعرفه على راكب آخر يقول له إنه زميله فى الجامعة.
تجاورا فى المقعد، وأخذ فى الحديث عن الجامعة، الشاب أخذ يتحدث بكل حماس عن حلمه فى العمل بعد الجامعة فى النيابة، ولكن ذلك الحماس فى الحديث الذى اشترك فيه جميع الجالسين حوله، قطعه إحباط من شقيق صديقه الذى ودعهما على باب القطار، أخذ يحبطه ويقول له «إن النيابة التى ترغب فى الالتحاق بها ليست لأمثالنا»، ظل يسرد له حكايات عن أهل قريتهم الفقيرة الذين تعلقوا بذلك الحلم ولم يطالوه، ولكن تلك الحكايات لم تنل من حماس الشاب، وظل الحديث المتضاد، يتناقل بين ألسنة الجالسين.
تحول الحديث لمنحى آخر، حيث اشترك شاب فى الحديث، يبدو على ملابسه والعدة التى إلى جواره أنه عامل، قال لهم بكل يأس إن البطالة تجبر الجميع على العمل بأى شىء، وتجبر البعض فى بلادنا على الموت، الشاب الذى عاد من ليبيا بعدما شاهد رفقته يموتون فى طريقهم فى الصحراء من أجل الهرب من الموت للموت، لم يبق فى ليبيا طويلاً بعدما داهمتها الحرب، ليعود ليعمل عاملاً هناك.
قطع الحديث ظهور أحد المشردين فى القطار، ذى الشعر الأشعث، والملابس المتسخة، والملامح المتعبة، حاول التواصل مع أحد الجالسين فى ذلك النقاش، ولكن نهره، حتى تدخل الشاب الجامعى، وطالبهم بمعاملته معاملة أفضل، وظل يحاول تهدئة الرجل المشرد الخائف، ويقول: «إن مثل هؤلاء فى بلاد تحترم آدمية الإنسان لهم أماكن رعاية خاصة تحميهم»، لم يقنع البعض بكلماته، وظلوا ينعتونه بألفاظ لا تليق، والبعض الآخر صمت وظل ينظر له بريبة، حتى استقر الرجل المشرد داخل أحد مراحيض القطار، بعدما صرخ فى وجهه عدد من الركاب الآخرين. حين وصل القطار إلى محافظة قنا، كان الهدوء قد عاد من جديد للقطار، الجميع يخلدون للنوم، والمقاعد عادت فارغة من جديد، ولا صوت يعلو فوق صوت هدير محركات القطار.
فى السادسة صباحاً، عاد المشهد من جديد خارج نوافذ القطار، تكسوه الخضرة الممتدة فى الأفق، وصل القطار إلى محطة الأقصر، كان المشهد يدور فى مخيلة المقبلين لتلك المحافظة تزينه موسيقى: «الأقصر بلدنا بلد سواح»، ولكن المخيلة الذهنية لم تستمر طويلاً، حيث قطعها صوت مزعج لموبايل ردىء، ينطلق صوته بأغانى أحد المهرجانات، التى كان يستمع لها أحد الشباب باستمتاع.
فى محطة الأقصر، وما تلاها من مراكز، عادت الأقدام من جديد إلى ممرات القطار، ظهرت العربات تمتلئ والمقاعد عاد لها أصحابها، من أصحاب الجلابيب الفضفاضة، والعمائم البيضاء الملفوفة حول الرؤوس بإتقان، والشال الصوف الأنيق حول أعناق الرجال، وأسنان البعض يكسوها الصفار تقتطعه تلك السنة فضية اللون التى تزين ضحكاتهم، السيدات بالملابس السوداء، تزين أيديهن وأرجلهن رسوم الحناء، أطفال ذو وجوه سمراء، إلى جوار أحد أبواب القطار المفتوحة جلس شاب، يمقت تلك الرحلة الصعبة التى شارفت على الانتهاء، شاب مقبل من الإسكندرية لزيارة أسرته، أخذ فى الحديث مع محرر «الجريدة» بعدما كشف له هويته، عن حال الصعيد الذى أصبح طارداً للجميع، ذلك الصعيد الذى يجده يبدأ من محافظة أسيوط فقط، فالشاب كان يتعصب للهوية الصعيدية التى لا يجدها فى محافظات الجيزة وبنى سويف والمنيا: «دول صعيد اسماً وجغرافيا بس الصعيد الحقيقى يبدأ من أسيوط»، محا الرجل من خريطة الصعيد ثلاث محافظات بكل اقتناع شديد.
تقارب الرحلة النهاية، تصل إلى محطة «دراو» وصل القطار أخيراً لمحافظة أسوان، تسود الملامح السمراء داخل القطار، حتى قاطع التذاكر بملامح سمراء، ويرتدى تحت بدلته الزرقاء ذلك «القفطان الصعيدى»، جلس ليستريح فى العربة الأولى، إلى جوار عدد من أصحاب الجلابيب، وأخذ يروى لهم عن حكاياته مع الركاب المتهربين من قطع التذاكر، ومشاجراته معهم، يشكو من حقوقهم المهدرة بسبب قانون السكة الحديد الذى يرفع شعار: «الراكب على حق»، حتى إن الرجل فى مصادمات دائمة مع الركاب: «ولا مرة عرفت آخد حقى»، تطرق الحديث بين قاطع التذاكر والركاب الثلاثة للتعارف، جلس إلى جوارهم رجل ذو بشرة سمراء، وجلباب أبيض عرف نفسهم لهم بأنه من أسوان، من خلف الخزان، وهنا فُتحت حكاية النوبة وأهلها، وكأن الرجل الأسمر كان فى انتظار تلك اللحظة، أخذ يروى عن حكايات التهجير، والرجل الذى يقول إن عمره شارف على السبعين، يتذكر جيداً مشاهد الانتقال من أراضيهم لأرض جديدة لم يألفوها، يرفع الرجل صوته بسبب صوت احتكاك عجلات القطار بـ«الفلنكات»، ويروى أن أكثر ما يزعجه تلك العقارب التى ما زالت تطاردهم داخل منازلهم الجديدة، ما زالت منذ التهجير وحتى الآن لدغاتها تصيب أجسادهم النحيلة، تقتل الأطفال وتصيب الكبار، تدخل قاطع التذاكر، الذى كشف أنه أيضاً ينتمى للنوبة، وأخذ يروى حين صعد إلى عنقه عقرب، وأن أحد جيرانه أنقذه من مصير مأسوف عليه، ولكن يعتبر ذلك كله هيناً، فالرجل أكثر ما يشتاق إليه هو قربه من نهر النيل: «عيشة تانية»، سرعان ما تحولت النقاشات التى زاد عدد المشتركين فيها إلى وصفات لعلاج سم العقارب بطرق بدائية، فى ظل بعد المستشفيات عن قراهم وعدم تجهيزها بالأمصال اللازمة، خاصة فى قرى الصعيد الجوانى، والبعيدة عن المراكز. خلفهم كان يجلس شاب أصم، أخذ يناقش عدداً من الشباب حوله بلغة الإشارة كانوا يحاولون جاهدين تفسير كلامه، فى حب لمحاولة مساعدته، ليدلوه على المحطة التى يقصدها، حتى تدخل أحدهم ليقطع الحديث: «مش لو إحنا فيه أبسط اهتمام بالمعاقين كان يبقى فيه ترجمة بلغة الإشارة لأسماء المحطات ديه».