«الوطن» مع الفئات الأكثر احتكاكاً بسكان الأرصفة: «المعاملة من بعيد لبعيد»
أطفال الشوارع والمشردون ينقلون الأمراض ولا توجد حماية لهم
على درجات سلالم نفق مشاة المؤسسة، ينزل خالد محمود يومياً، وعلى رأسه صينية تحمل بعض المخبوزات، يوقظ الشاب الثلاثينى بضعة مشردين يبيتون فى النفق طوال الليل، موزعاً عليهم بعض المخبوزات التى معه مجاناً، لكن العلاقة بينه وبينهم تظل «من بعيد لبعيد»، ولم يكن خالد وحده الذى يتعامل بشكل يومى مع تلك الفئة، فأصحاب «الفرش» داخل الأنفاق والأماكن التجارية، وأفراد الأمن الذين يقفون على كثير من المنشآت، وبعض القائمين على حالات الإنقاذ للمشردين، والفواعيلة الذين يزاحمونهم على الأرصفة أحياناً، لكن التعامل فيما بينهم يصل للنقيضين؛ التعاطف مع بعضهم، أو نهرهم وإبعادهم عن أماكن وجودهم.
«بائع»: عملنا لهم كولدير يشربوا منه لوحدهم.. و«فواعلى»: باتعامل معاهم بحذر عشان المرض
«خالد» قضى 7 سنوات داخل النفق بائعاً للمخبوزات، يبيع القطعة بجنيه ونصف، لكنه يحمل كيساً كل صباح يضع به 8 قطع يضعها بجوار أحد المشردين بعدما يوقظه، ورغم تلك الأيام التى قضاها فى النفق فإنه لا يتذكر مرة واحدة لامست فيها يده يد أحدهم: «بصراحة ومن غير زعل أنا بخاف أقرب منهم، منظرهم مش كويس، وريحتهم وحشة، ومش بعيب عليهم والله، بالعكس أنا بجيب لهم قُرص معايا يوماتى، وعلى حسابى وبعتبرها صدقة لربنا»، قالها الشاب مشيراً إلى أن بعض هؤلاء الشباب لهم حكايات مرعبة يقصها البعض عليه: «أسرهم رمتهم أطفال وكبروا فى الشارع، معاناتهم صعبة جدا، تخيل محدش منهم بيعرف يستحمى فى الصيف بشكل يومى، ولا بيعرف يغير هدومه أو يغسلها، وبالتالى هما مصدر لأمراض مُعدية، وعشان كده علاقتى بيهم من بعيد لبعيد». الأمراض التى تحدث عنها الشاب لها علاقة بالفطريات والأمراض الجلدية، مشيراً بيده إلى مجموعة من ورق الكارتون التى ينامون عليها، والتى امتلأت بالوسخ موضحاً أنها مصدر للبكتريا، لافتاً إلى أن استحمامهم أمر صعب، فحيثما وجدوا طردهم الناس: «بيحاولوا يستحموا فى الجوامع، بس عمال النظافة أحياناً بيطردوهم، ملهومش مكان يؤويهم وللأسف تحولوا لمدمنين».
«خالد»: 7 سنين باتعامل مع مشرد بس عمرى ما لمسته
وعلى رصيف مسجد الخازندارة بمنطقة روض الفرج، اصطف عدد من «الفواعلية» أمسكوا بأدواتهم فى انتظار من يطلبهم للعمل، يقابلون بشكل يومى مجموعة من المشردين الذين يجاورونهم على الأرصفة، يطلبون منهم العمل معهم أحياناً لكنهم يرفضون، إلا أن أحدهم استطاع إقناع واحد منهم للعمل معه: «هو ليه حق يعيش حياة طبيعية، بس الظروف اللى عملت فيه كده»، قالها محفوظ، أربعينى، مقبل من الصعيد للعمل فى القاهرة، مشيراً إلى أنه رأى فى أحد الشباب المشردين ذكاءً وقدرة على العمل ووُفّق فى إقناعه: «فى الأول كنت بخاف أتعامل معاه، وبتحاشى حتى أسلم عليه بإيدى لأن يومه كله فى الشارع ولو اتعديت منه بأى مرض هتبقى كارثة»، قالها الرجل الذى لم ينَل حظاً كافياً من التعليم لكن بوسعه معرفة أن بعض الأمراض تنتقل عبر الدم، وفى مهنة يقوم فيها الشخص بالتكسير والحمل والنقل يكون عرضة لأى جروح أو خدوش: «فى مرة هو اتعور قدامى وأنا بصراحة مقدرتش أعمل له حاجة، خفت يجيلى مرض من ملامسة الدم بتاعه، لأن أنا كمان كانت إيدى مفتوحة ولافف عليها قماشة»، لكنه يشير إلى أنه بعد فترة أصبح باستطاعته الأكل والشرب معه: «اتغير وبقى يلبس كويس وبقى لا مؤاخذة نضيف شوية، ومن ساعتها بنتعامل عادى بس بحذر عشان معرفش تاريخه المرضى إيه».
مناطق بعينها تشتهر بتجمعات المشردين وأطفال الشوارع، على رأسها محيط مسجد السيدة زينب، حيث ينتشر الأطفال هناك بكثرة، يتنقلون بين أصحاب الفرش وينامون على سور المسجد وأحياناً قرب كوبرى أبوالريش، وعلى بعد خطوات داخل سوق المواردى الملاصق لمحطة مترو السيدة زينب، يجلس حسن يوسف يبيع بعض المواد الغذائية، يأتيه طفل بملابس متسخة طالباً منه بعض الطعام، فيعطيه بعضها ويقدم له بعض الحلويات، مشيراً إلى أنه يكرر ذلك منذ فترة، ولأن الشاب الثلاثينى تقع بضاعته بالقرب منهم فإن علاقة ودودة نشأت بينه وبينهم بعدما قدم لهم يد العون: «العيال دى غلابة والله وملهاش اللى يحميها، وللأسف الحكومة سايباهم بنات على صبيان، ولا مؤاخذة البنات أصلاً مبقتش بنات من اللى بيحصل معاهم فى الشارع»، منوهاً بأن بعضهم يعانى من مشاكل صحية وغير قادرين على الذهاب إلى مستشفى أو الكشف فى عيادات، وهو الأمر الذى يُقلقه وجعل هناك حاجزاً بينه وبينهم: «أنا بتعامل معاهم بشكل سليم، بديهم أكل وشرب ولو حد منهم عايز شبشب بجيبله، لكن مفيش بينا سلام وكلام وقعدة مع بعض، عشان مضمنش حد منهم ممكن يعدينى لو مثلاً شرب عندى أو كل فى طبقى بصراحة»، ثم يتحرك الشاب بعيداً عن بضاعته متجهاً إلى أحد خزانات المياه الصغيرة والتى أعدها مع مجموعة من الأشخاص لهؤلاء كى لا يشرب أحد مكانهم: «إحنا عاملين ليهم الكولدير ده، عشان يشربوا منه وميشربوش من التانى، لأن طرق العدوى كتير وبعضها بالدم زى لو فيروس سى مثلاً ولا الإيدز وهما معرضين لده، أو بعضها باللمس والمصافحة زى لو كان مرض جلدى، وعشان كده بنحاول نفصل بين تعاطفنا معاهم وخوفنا منهم».