لا أستطيع أبداً أن أنسى تلك الجملة التى خرجت من فم «واحد» كان من المتنفذين الذين يطلق عليهم بعد مرحلة «مستثمرين».. فى بداية الألفينات، كان قد حضر مؤتمراً اقتصادياً عقده «الأهرام»، وتابعت المؤتمر من زاوية الاهتمام العام، وقت أن كنت مسئولة عن تحرير صفحة الكتب.. تعارفنا وطلب أن أدله على عناوين كتب معنية بمشكلة المياه، وأعطيته عناوين وبضع كتب كانت من إصدارات «الإهرام».. المهم أن الرجل تعود بمنتهى الاحترام، أن يزورنى فى المكتب وأن نتبادل الآراء وفجأة، قال لى إنه هو ومجموعة من المتنفذين أيضاً يجتمعون على العشاء كل ليلة ليبحثوا إلى أى أو على أى «فريسة» سوف ينقضون فى اليوم التالى، قاصداً بالفريسة المغنم أو الغنيمة التى سوف يبلعونها أو يتقاسمونها غداً، وقد تكون أرضاً سوف يمد لها طريق، مصنعاً تم تعطيشه وعلى وشك أن يباع برخص التراب!
الحقيقة أنه كان يعبر عن واقع أو مناخ، تستطيع أن تسميه «الاستباحة» أو اللى «يقدر ياخد حاجة.. ياخدها»، مناخ الاستباحة، تحول معه البلد وكأنه بلا صاحب.. أشبه بصينية «البسبوسة»، نال منها كل حسب نفوذه وما يملك من عناصر قوة، هكذا تكونت إمبراطوريات وممالك، منها إمبراطوريات الأراضى التى فيها مالكون لعشرات الألوف، ليس من الأمتار، بل الأفدنة والكيلومترات، كل متر أرض استولى عليه هؤلاء الأباطرة، خلف وراءه مرضاً وعاطلاً وجائعاً.. كل استحواذ، ونهب للمال العام كان انتقاصاً من فرص العيش الكريم لنا ولأولادنا، كل استحواذ خلق «حيتان» كان فى مقابله مرضى وجوعى ومتعطلون.. معركة استرداد الأراضى المنهوبة، معركة حقيقية لاسترداد حقوق أصيلة لأغلبية تحولت فى فترة إلى «نهيبة»، يلقى بالفتات.. فى صيغة صدقاتى «بالصدقات».. يتغول الواحد منهم وكل رمضان يتبرع له بكام شقة أو كام مليون.. معركة استرداد الأراضى معركة استرداد لحقوق فى التعليم والصحة والعمل، معركة «سرقة حياة»، وبهذا المنظور ينبغى لنا التعامل معها والإصرار عليها، جملة الرئيس فى لقاء قنا وسوهاج «ما هو مش معقول واحد يستولى على عشرين ألف فدان وفيه ناس مش لا قية تاكل»، جملة لخصت كل ما جرى.. ويضاف اليوم لها مدلولات أخرى ما هو مش معقول يدفع التبعات من لا يملك، ويرتع من استحوذ ونهب! عندما نتكلم عن معركة الأراضى، لا يمكن أن يكون المقصود بالتأكيد فلاحاً زرع «جرجير» فى قيراطين طرح نهر، أو صلح فدادنين.. نقول هذا حتى لا يحول البعض المعركة الحقيقية عن مسارها.. الأولوية «للحيتان»، وليس بأى أغراض غير استرداد مقابل ما استولوا عليه بغير حق ودفعنا مقابله السرطان والفشل الكلوى والتعليم الفاشل والبطالة. بالأمس استردت الدولة ضمن ما تحاول استعادته من حقوق، ٢٠٠ ألف متر، فى محافظة ساحلية، فى بقعة من أجمل وأروع سواحل الدنيا، كان قد استولى عليها أحد «وزراءالسياحة» لأنها تجاور فندقاً يملكه وحولها لإسطبل خيل ومساكن للعاملين فى الفندق الذى يملكه!! كان يدفع إيجاراً رأت هيئة التنمية السياحية أنه يخسف بقيمة الأرض، أرادت رفعه، رفض الوزير الأسبق وقال مش دافع! هناك حالات أشبه بالأساطير.. أناس استولوا على مئات الكيلومترات، على طريقة الذى ركب الفرس وراح يجرى بها ويقطع المسافات ويمتلك كل ما جرت فوقه الفرس العفية القوية! وهذا بالطبع عكس ما جاء فى الحكاية الروسية الشهيرة التى أرادت القول إن الطمع قل ما جمع، لأن فى الحكاية الروسية كانت هناك شروط! وراء كل حالة استرداد للأرض دراما حقيقية، وربما لو كنا نملك وسيلة تمكننا من معرفة التفاصيل عن هؤلاء الذين يمتطون بعض قنوات الإعلام، ويغسلون «سمعة» بعد ابتلاعهم آلاف الكيلومترات والأمتار، ويطلقون على الناس وجوهاً تورمت من الفلوس، مطالبين إياهم بربط الأحزمة، أو النازعين للخير والتبرع من لحمنا الحى أو هؤلاء الزاعقين، بلكنات صعيدية أو ريفية، باسم الناس فى مجالس رسمية، واستحوذوا وأمنوا أنفسهم وأبناءهم وحتى عشرة أجيال، وغسلوا أراضى وسيلوها.. استرداد أراضى الدولة المصرية هو مفتاح من مفاتيح الإصلاح الداخلى الحقيقى، امتحان حقيقى.. واحدة من أشرس المعارك وأكثرها دلالة، وأكثرها كشفاً.