طوال أكثر من عامين.. لم أكن مقتنعاً بأن ما جرى فى الخامس والعشرين من يناير 2011 «ثورة». قلبى كان يحدثنى دائماً بأنه «حمل كاذب». فرحت ثمانية عشر يوماً، ثم تبين لى أن مصر كانت «حامل» فى مسخ ماسونى كريه ومخيف.
مرت على هذا البلد علامات صغرى كثيرة: فوضى وانفلات وانهيارات وتشرذم وصفقات ومؤامرات وتحالفات قذرة، ثم كانت العلامة الكبرى: وصول جماعة الإخوان إلى سدة الحكم.. فكان لا بد من «قيامة».
البداية كانت من أربعة حروف: «تمرد». أكثر من عشرين مليوناً يقولون لمرسى وجماعته البغيضة: «غور». أكثر من عشرين مليوناً يقولون لهذا المسخ: عد إلى زنزانتك.. إلى الجُحر الذى أتيت منه. مصر ليست «جماعة» تنتظرك آخر الليل لتنقع وساوسك الشيطانية ورغباتك الدنيئة وأفكارك العفنة فى طشت خل وماء. مصر ليست جارية وجدتها أنت وعصابتك على باب جامع، ليضمها مرشدك إلى ما ملكت يمينه. مصر حنون ومرنة وتصبر على مصائبها، لكن بالها أطول من حبل المشنقة، ولن تكون بدلة على مقاسك إلا إذا كانت «حمراء». أكثر من عشرين مليوناً يقولون لك ولحلفائك: لم نعد نخاف، رغم أن المعركة ستكون الأشرس هذه المرة: «الحكم مقابل السلام». لم يعد لدى المصريين صبر على ظلم أو فساد أو قمع أو تخلف أو فشل أو خيانة أو إرهاب، فثلاثون عاماً فى كنف مبارك تكفى.
البداية «تمرد»: لا وراءها حزب ولا أمامها زعيم، بل ولد صغير، نابهة، يدعى «محمود بدر»، ينام ووجه مصر على وسادته، ويجلس على دكة أمام نيلها وهو يحتضنها، وكلما مسها هواء العابرين ألبسها قميصه الأزرق ووقف يدافع عن شرفها بلحمه العارى.. فالمجد لأول استمارة فى طوفان سحب الثقة. المجد لـ«تمرد»: لا شرعية ولا قانونية، لا سافرة ولا محجبة، لا جاهلة ولا مثقفة، لا فقيرة ولا غنية، لا مسيسة ولا معسكرة، لا مؤسلمة ولا معلمنة، لا نخبة ولا دهماء.. . ولا محل لها من الإعراب سوى أنها كانت استفتاء على كراهية المصريين لـ«الإخوان» رئيساً وجماعة، وكانت موعداً ليوم قيامة: «30 يونيو».. وها هو قد أتى.
أتى بما لم يكن يتوقعه المتاجرون بالدين وحلفاؤهم من القتلة والسفاحين ودعاة الفتنة والتخلف. مصر كلها تنتفض الآن بما فيها معاقل هؤلاء الكلاب. المصريون خرجوا بالملايين، ليقولوا لمحمد مرسى وجماعته الفاشية: «يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم».
الغناء يعلو فى الميادين: القارعة.. ما القارعة، والناس يحملون أرواحهم على أكفهم ويتساءلون بين الخوف والتفاؤل: أين محمد مرسى وعصابة وادى النطرون؟. أين حماسه وقطره؟. أين المتآمر، داعية الهدم والاستنجاد بـ«الغرب الملحد»، يوسف القرضاوى؟. أين ميليشيات الإرهاب التى كانت تستعرض قوتها وتحرض وتهدد وتتوعد كل هذه الملايين بالسحق والحرق وقطع الرؤوس؟. أين كهانة المرشد وغطرسة الشاطر وصفاقة العريان وبلاهة الحيزبون باكينام؟. أين عاصم عبدالماجد ومحمد عبدالمقصود وصفوت حجازى وطارق الزمر ومحمد حسان وغيرهم من جوقة الراقصة التائبة رابعة العدوية؟. أين ذهبوا.. بل أين سيذهبون: إلى السجن.. أم إلى مزبلة التاريخ؟.
أصبح لدى مصر الآن «ثورة». أصبح لديها أمل فى مستقبل مشرق، نظيف، بلا لحى وكروش وسحن منحوتة من صخور ما قبل الإسلام. أصبح من حق المصريين أن يفخروا بأنفسهم.. بجنوحهم إلى السلم.. بوسطيتهم الحاضنة.. بنفاد صبرهم على عدوهم. أصبح من حقهم أن يفخروا بقدرتهم على أن يكونوا ساعة الجد «مصريين» بحق: لا فرق بينهم فى دين أو ثقافة أو طبقة. لا مكان بينهم لكذاب أو منافق أو كلب سلطة. لا مكان لمعايرة أحدهم للآخر بأنه «فلول» أو «نظام بائد». لا نخبة تزايد على وعيهم.. وهم فى غيهم يعمهون، ولا صفقات مشبوهة تحت موائدهم.. بينما هم يتناولون طعامهم ويؤدون فروضهم ويسمعون أصواتهم وهم يغنون ويرقصون ويقولون شعراً. مصر التى خرجت فى الثلاثين من يونيو «واحد صحيح»، وكل ما عداها صفر على يسارها. مصر التى خرجت كانت كتفاً بكتف، وساقاً بساق، ويداً بيد. مصر المنتقبة إلى جوار البنطلون الجينز. مصر هلالاً إلى جوار الصليب. مصر الكومباوند إلى جوار العشوائية.. هذا أول الغيث، فافرحوا وثقوا فى محصولكم.
هل لـ«الإخوان» فضل أو فضيلة فى كل ذلك؟
نعم.. هم الذين وحّدوا مصر وأوقفوها عن بكرة أبيها فى خندقٍ واحد. هم أول اختبار حقيقى لوعى المصريين بأنفسهم منذ ثورة يوليو 1952. هم الذين أجبرونا على مراجعة مواقفنا، وإعادة إنتاج ما تعلمناه وتعبنا فيه عبر آلاف السنين. هم الذين جعلوا كل مصرى «يخاف» على مصريته، ويبحث فى أعماقه البعيدة عن معنى «أن يكون الإنسان مصرياً». هم الذين ردوا إلى عبدالناصر والسادات ومبارك اعتبارهم على ما بينهم من تنوع واختلاف. هم الذين أجابوا عن كل أسئلة المصريين التى ظلت ملتبسة طوال أكثر من عامين: هم الطرف الثالث والفلول الحقيقيون وقتلة الشهداء. هم الفهم الخاطئ للإسلام، والكفار فى بلد مؤمن بالفطرة. هم «وساخة بطن» مصر الذى أنجب للبشرية طابوراً بطول سبعة آلاف عام من رواد الفكر والأدب والعلم والسياسة.. والدين. هم صهاينة الإسلام وأعداء الوطن الحقيقيون. هم كل ما هو سيئ ومنبوذ ومعتم فى فطرة المصريين.. فشكراً لهم وأهلاً بالمعارك.