«البلد دى ربنا بلاها بلوتين بلوة العسكر وبلوة الإخوان.. دول خربوها ودول رجعوها لورا ووقفوا نموها»..
تلك الجملة اعتبرتها المنطلق الأمثل للبحث فى رسائل مسلسل «الجماعة» 1 و2، فقد أوردها وحيد حامد فى جزئه الأول على لسان كريم عبدالعزيز فى وصف حال مصر والمصريين.
تلقفت أولى الرسائل.. لفظ العسكر، أى (المرتزقة)، الذى وصفت به مجموعة الحكام العسكريين فى سابقة لم تحدث فى تاريخ الدراما المصرية بل وفى تاريخ الفنون المصرية كافة وأضافته كمتلازمة لغوية وطرف أول فى معادلة تخريب طرفها الثانى جماعة تبرأت من كل ما هو وطنى سعياً وراء خرافات الحاكمية وأوهام الأممية.
فى أعقاب 25 يناير لم يكد يمر عام على عرض الجزء الأول حتى غزت هتافات يسقط حكم (العسكر) ميادين وفضائيات مصرية على لسان الجماعة الإرهابية ومرتزقة الغرب وإسرائيل فى سابقة تاريخية أيضاً لم يشهدها المجتمع مسبقاً، فربما كان هناك من تلقف اللفظ مثلى واستحسنه، أما أنا فأدركت قبحه.
الرسالة الثانية كانت أننى إزاء عمل درامى يهدف إلى تزيين مرحلة سبقت ثورة يوليو مباشرة مقابل تشويه 60 عاماً تلتها هى فترات (مجموعة الحكام العسكر كما أطلق عليهم).
وهذا تاريخياً غير دقيق، فالفساد على اختلاف صوره ومظاهره كان قاسماً مشتركاً فى هذه الفترات مجتمعة، وعن حكم «فاروق» فالكتابات المصرية عامرة بشروح عن الاختلال الحاد فى الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية حينها، لكننى أتوقف عند الجملة التى قالها «تشرشل» للملك: «ليس ثمة مكان فى العالم كله يجمع التناقض بين الثروات الطائلة والفقر الحاد على النحو الظاهر فى مصر».
وعند محاولة نائب الوفد أحمد حسين عام 1950 تقديم مشروع يجعل الحد الأدنى لعمال الزراعة 25 قرشاً وعمال الغزل 20 قرشاً ثار عليه باقى أعضاء الحكومة متهمين الرجل بالشيوعية والعمل على قلب نظام الحكم.
«الجماعة 2» ألبس «فاروق» رداءً وطنياً زائفاً تخلعه عنه بوضوح وثائق تاريخية سجلت ملابسات تخليه عن العرش وتثبت أنه حاول استعداء قوى غربية للتدخل وإجهاض حركة الضباط، فمن الوثائق البريطانية..
أرسل السفير البريطانى -24 يوليو- لوزارة خارجيته نص الخطاب التالى: «حاول (فاروق) أن يستعين بالسفير الأمريكى بالقاهرة (كافرى)، حتى إنه شكا إليه أن الإنجليز هم أصحاب الفتنة، ونقل إليه (كافرى) أول انطباع لحكومته أن يضبط أعصابه ويتصرف بحكمة ويضحى ببعض مستشاريه ليسترد الكثير»، وفى خطاب آخر للسفير البريطانى: «إن الملك طلب من السفير الأمريكى طائرة حربية أو بارجة لتنقله وأسرته خارج البلاد ولم يعطه الأخير رداً مباشراً»، المصادر: (الوثائق البريطانية، وكتاب «ربع قرن من السياسة فى مصر» لأحمد عز الدين)، وثائق البوليس السياسى المصرى أيضاً لم تخلُ من تسجيل محاولات «فاروق» استدعاء الإنجليز لإعادة احتلال القاهرة والإسكندرية، فقد أوردت إحدى وثائقه -25 يوليو- أن الملك حاول الترتيب لقتل بعض كبار الشخصيات البريطانية فى المحافظتين، وكان ذلك كافياً لتدخل عسكرى بريطانى.
أما علاقة سيد قطب بـ«عبدالناصر» ومجلس قيادة الثورة فقد ذهب المسلسل نحو مبالغة حادة فى عرضها دون مرجع تاريخى موثق، حيث اعتمد على مجموعة رسائل قد لا تخلو من الهوى والخيال ولا تعد توثيقاً ولا مرجعاً تاريخياً قام بنشرها الكاتب إسماعيل خضر فى مجلة «الرسالة».
الثابت تاريخياً أن إبراهيم شكرى (كان أحد أبرز قادة الحركة الوطنية) عضو مصر الفتاة، هو من نادى بتحديد الملكية الزراعية، وأن مشروع القانون الذى تقدم به لمجلس النواب فبراير 1950 هو ما أقرته ثورة يوليو، لا استشارات هذا القطب.. هنا علينا التوقف لنسأل: لماذا عمد المسلسل إلى إظهار علاقة بهذا العمق بين المجلس و«قطب» ومصر كانت الزاخرة والعامرة بكوكبة عظيمة تبوأت الصدارة فى تاريخ الثقافة العربية: «أحمد حسن الزيات، العقاد، طه حسين، مصطفى صادق، نجيب محفوظ.. وغيرهم» جميعهم أيدوا الثورة؟!.. وهنا علىَّ أن أتساءل: هل نحن بصدد اتجاه يصور أن «عبدالناصر»، وقد كان مدرساً للاستراتيجية بالكلية الحربية ومجلس قيادة الثورة، على الرغم من انتماء معظمهم لمرجعيات سياسية وفكرية مختلفة، كانوا مجموعة من السطحيين وعلى غير وعى أو إدراك لواقع مصر السياسى والاقتصادى الاجتماعى لذلك لجأوا لمن هو ريشة فى ميزان تلك الساحة الثرية؟
أم أن المراد هو تصوير أن انقلاب «عبدالناصر» عليه كان وراء دفعه نحو انتهاج التكفير والعنف (معالم فى الطريق) انتقاماً ما زلنا نتجرع مرارته حتى الآن؟!!
من كل ما سبق وعبر متابعة وتحليل لـ«الجماعة» بجزأيه أرى أنه محاولة تبدو لى واضحة لوضع ثورة يوليو وما تلاها كطرف أول فى معادلة أدت لخراب البلاد وسوء أحوال العباد عبر مجموعة (العسكر كما أورد المسلسل)، ولا أبالغ إن قلت إننى أرى أيضاً أن مصطلح (عسكر) لا يخص مجموعة محددة بل يطول الجيش بأكمله.
أستعجب من حال مجموعات تدفع -ظاهراً- باتجاه إخراج الجيش من المعادلة السياسية (وهذا أمر صحيح) إلا أن هدفهم الحقيقى هو إخراج الجيش من معادلة الأمن القومى وكونه جزءاً أصيلاً من القرار الاستراتيجى والسياسى والأمنى.. إنهم يريدون ملكاً دون ملكية وربما يرون فى «ماكرون» الفرنسى الذى أدى اليمين من أمام هرم اللوفر نموذجاً أمثل يمكن تكراره فى مصر، لكن من أمام أى هرم سيؤدى اليمين؟!!