لا أتوافق بأى شكل من الأشكال مع الكتابة والترويج لمفهوم «الآخر» فى إشارة للمختلف معى فكرياً وسياسياً، وأيضاً دينياً، وأفضّل دائماً استخدام مفهوم «الطرف الثانى» للدلالة على المشاركة والتفاعل الكامل فى مجتمع واحد ووطن واحد، بدلاً من مصطلح «الآخر»، الذى يُوحى بالفرقة، لما يحمله واقع الآخر من إشارة تهدف إلى الاختزال فى شكل معين (إما مسيحى أو مسلم)، أو التعميم والتذويب (عربى وليس مصرياً)، أو الاستبعاد (على الأقلية أن تخضع للأغلبية، إعمالاً لتطبيق مبدأ الديمقراطية)، أو التجنب السلبى بافتعال جدل (لا يجوز تولّى المواطن المصرى المسيحى أو المرأة المصرية رئاسة الجمهورية).
وجد مفهوم «الآخر» ترويجاً على نطاق واسع بين الأكاديميين والكتاب والصحفيين، غير أن المتتبع لكتاباتهم يجدها تكرس للمفهوم السلبى للآخر بالمعنى الذى ذكرته.
اكتشاف الطرف الثانى هو أهم سمات المعرفة الإنسانية وتبادل الخبرات وتواصل الحضارات وتداخلها فيما بينها للارتقاء بالحضارة الإنسانية، وهو ما يترتب عليه أن الهوية الوطنية الحقيقية للدولة هى التى يثبت فيها حضور كافة أبنائها بغض النظر عن كونهم رجالاً أو نساء، ومسيحيين أو مسلمين، وأقلية أو أغلبية.. فحضور كافة أبنائها ومشاركتهم فى صناعة مستقبل وطنهم هو العلامة الفارقة فى حضور الطرف الثانى التقليدى.. المهمش والمستبعد والمستضعف. وجود تلك المساحة الفكرية والدينية والسياسية للمختلفين معى يؤكد خروجى من أوهام التفرد والتميز على جميع المستويات للوصول لحقيقة أن الوصول للمختلف معى لا يمكن أن يتم بالمشاهدة والملاحظة فقط، ولكنه يتطلب التفاعل والامتزاج، من خلال حرص كل طرف على الحفاظ على تميزه، واحترام الاختلاف معه.
اكتشاف الطرف الثانى المختلف يرتبط بشكل أساسى بمبدأ الاعتراف به، وهو المدخل الأساسى لفهمه، كما أننا نعرف أنفسنا ونكتشف حقيقتنا من خلال تعاملنا واتصالنا بالأطراف المختلفة، وهو ما يترتب عليه أن نصغى للطرف المختلف معنا، لكى نفهمه، قبل أن نصدر عليه أحكاماً مسبقة بهدف التعلم منه، وليس احترامه فحسب.
إننا نحتاج إلى الأطراف (المختلفين عنا) لاكتشاف أخطائنا، كما يحتاجون هم أيضاً إلينا.. فنقد الآخرين لنا لا يقل أهمية عن نقدنا لأنفسنا.
القاعدة هى فهم الطرف الثانى كما هو، وليس كما نريد أن نراه نحن حسب وجهة نظرنا.. يُمكننا من رؤيته على حقيقته بعيداً عن الذوبان والاستغراق فيه أو الانعزال والانفصال عنه. إن تحويل الذات إلى موضوع يعد عملاً تعسفياً، وهو الأمر الذى نبه إليه إدوارد سعيد قبل ما يزيد على ثلاثين عاماً فى كتابه القيّم «الاستشراق»، حينما ذكر أن تحويل الذات إلى موضوع يحط من إنسانية الطرف الثانى، وهو ما يعد رفضاً لحق المختلف عنا فى الوجود كإنسان له تاريخه وثقافته وطريقته الخاصة فى الحياة.
إن علاقتنا بالطرف الثانى المختلف عنا هى مسئولية، لا يمكن الهروب منها أو استبدالها أو التنصل منها، أو الاستعاضة عنها بأى شىء آخر أبداً.. ومثال ذلك الواضح الشخصية العنصرية التى لا تعرف الطرف المختلف عنها سوى فى شكل العدو لها، وهو تعريف يجعلها فى موقف النهب المستباح فكرياً وسياسياً واجتماعياً.. على اعتبار أنه (عدو) يجب أن يختفى من المجتمع.
إن صيغة (وجهاً لوجه) بيننا وبين المختلف عنا تسمح بالعديد من أشكال التواصل الإنسانى المباشر، بداية من إنصاتنا لما يقوله (الكلام والصوت)، ومروراً بالنظر إليه (الوجه والجسد)، وصولاً إلى تلك الدرجة من التفاعل بما فيها من اتفاق واختلاف.
يقول أرسطو: «إننى أعرف أننى أكاد لا أعرف شيئاً، وحتى هذا أكاد لا أعرفه»، هى مقولة لا يزال لها صدى فى مجتمعاتنا إلى اليوم، خاصة فى تعاملنا مع الاختلاف. وأزعم أننا أصبحنا فى الفترة الأخيرة نروّج لقبول الاختلاف إعلامياً وأكاديمياً، بدرجة أكبر بكثير مما نختبر هذا القبول فعلياً وعملياً فى حياتنا اليومية، وأعتقد أنه علينا أن نتعلم من أخطاء الماضى، كما يجب أن نتعلم أيضاً تجنب حدوث الأخطاء، وبالطبع، فإن تجاهل الأخطاء وافتراض عدم وجودها، هو الأمر الجلل الذى يؤدى إلى المزيد من تأجيج المشكلات فى المجتمع بين أبنائه.
نحتاج إلى اعتماد مبدأ الاختلاف الإنسانى الرشيد فيما بيننا من أجل التعلم واكتساب الخبرات وتبادلها.
نقطة ومن أول السطر:
قبول الاختلاف والتنوع هو التحدى الرئيسى إلى كل الذين لا يقولون، ويزعجهم أن يقول لهم أحد: لا.. لا نوافق على رأيكم أو على ما تقولون!