فى هذه الأيام من سنة 1998، وبالتحديد يوم 17 يونيو، فُجِع الجميع بوفاة الشيخ الشعراوى، الذى أحدث رحيله دوياً هائلاً هز الأوساط المختلفة فى مصر والعالم الإسلامى، وكانت جنازته مهيبة، شهدها طوفان من العلماء والدعاة والمحبين، فسلام عليه فى الخالدين، ودائماً نجد فى كل عصر شخصياتٍ صنعت عقلية فارقة ومفاتيح للعلم والفهم والوسطية والحضارة والبناء، وعُرفت بالتبحر فى العلم والتفاعل مع الأحداث وإدراك الواقع، حدث ذلك مع حسن العطار، ومع إمام الدعاة، رحمهما الله.
الذوق والجمال و«قولوا للناس حسناً»، شعار الشيخ الشعراوى فى تعامله مع كتاب الله، وحين نقارن بين تفسيره (خواطره) وبين تفسيرات أخرى اليوم ندرك الفرق بين فهمٍ لكتاب الله ينشر الرحمة والذوق والجمال والإنسانية، وبين فهم ينشر الظلام والسطحية والإحباط والعنف والتشدد والصدام والقبح، وهذا هو الفرق بين فهم «الشعراوى» وفهم سيد قطب، والفرق بين من يُقبل على التعامل مع كتاب الله من منطلق الهدوء والثبات والتريث والنفس المطمئنة المستقرة ومن يُقبل عليه بنفس غاضبة عنيفة ثورية متشنجة.
سر نجاح وتوفيق الشيخ الشعراوى -بعد عدم استعلائه بالعلم والإيمان- أنه أقبل على التعامل مع كتاب الله بنفس هادئة متزنة، وأن غيره من المتشددين أقبل على فهم كتاب الله بنفس عنيفة غاضبة، فهذا فهم خرج من رحم المساجد وفى رحاب الله وفى أجواء صافية، وهذا فهم خرج فى أجواء السجون والمعتقلات، هنا يُولد القرآن بعطاء يتسم بالمودة والرحمة والحضارة والإنسانية، وهنا يتسم فهمه بالعنف والتشدد والغضب والصدام، أو ما يطلق عليه (التفسير الغاضب لكتاب الله).
سياسياً فقد تعددت المواقف المشرفة للشيخ، وإن كان هذا لا يمنع حق البعض فى انتقاد الشيخ فى أحد المواقف، لكن يظل الشيخ يمثل مرجعية كبرى وإماماً من أئمة المسلمين وعلامة فارقة فى العصر الحديث.
من المواقف الملتبسة فى حق الرجل والتى ظُلم فيها، موقفه من جماعة الإخوان، حيث دأبت آلة الإخوان الإعلامية على اعتباره من مؤيدى الجماعة، بالنظر إلى فيديو يصف فيه الجماعة بالشجرة الطيبة وروعة ظلالها.. إلخ، والحقيقة أن الرجل كان يتحدث عن خط للجماعة تحولت عنه، وبقى موقف الشيخ هو الرفض التام لجماعة الإخوان وفكرها، وذلك حين قال: «عرفت أن مسألة (الإخوان) ليست مسألة دعوة وجماعة دينية، وإنما سياسة وأغلبية وأقلية وطموح إلى الحكم، وفى تلك الليلة اتخذت قرارى، وهو الابتعاد عن الإخوان»، كما قال أيضاً: «ابنى سامى كان فى الإخوان، فقلت له: ابتعد، بعد أن شاهدت التحول الذى طرأ على الجماعة»، وقال أيضاً: «الإخوان أعدائى؛ لأنهم لا يسمعون الإسلام إلا من حناجرهم، إن قام واحد ليقول فى الإسلام وليس منهم فلا يسمعون حديثه»، عن موقف «الشعراوى» من الإخوان يراجع كتاب: طارق حبيب «حوار الشيخ الشعراوى»، وكتاب سعيد أبوالعينين: «الشعراوى الذى لا نعرفه»، وكتاب محمد جزر: «الشعراوى فى عيون معاصريه»، وحوار «المصور» مع «الشعراوى»، العدد ٢٩٩٦، ومقال عمر التلمسانى: «تصحيح لوقائع» (المصور)، العدد ٣٠٠٠، وكتابى: «موقف علماء الأزهر من جماعة الإخوان».
فعلى الشباب ألا يتعلقوا بالأصاغر من أهل التشدد، ولا يغتروا بلحية طويلة من ورائها وجوه مكفهرة، وألسنة كاذبة، وفتاوى نشاز، وقبح فى الأخلاق، وكره للآخر، وتعلق جنونى بمسائل النساء، فجلبوا على صورة الإسلام عاراً وتشوهاً، وعليهم التعلق بمن يحدثهم عن الأمل والعلم والذوق والجمال والإنسانية والحضارة والبناء. وصدق الشاعر:
مَتى تَصِلُ العِطُاشُ إِلى ارْتِوَاءٍ ... إِذَا اسْتَقَتِ البِحَارُ مِنْ الرَّكَايَا؟!
وَمَنْ يُثْنِى الأَصَاغِرَ عَنْ مُرَادٍ ... وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ فِى الزَّوَايَا
وإِنَّ تَرَفُّعَ الوُضعَاءِ يَوْماً ... عَلَى الرُّفَعَاءِ مِنْ أدهى الرَّزَايا
إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ والأَعَالِى ... فَقَدْ طَابَتْ مُنَادَمَةُ الْمَنَايَا