المشهد الذى عاشته مصر فى 30 يونيو واستمر أربعة أيام كان أكبر كثيراً من قدرتى على كتابته. كنت أظن أنه سيكون «نهاية سعيدة»، وقلت: سأنتظر، لأهضم وأتلذذ وأفهم وأبتعد قليلاً عن اللوحة لأراها بأقل انفعال، لكن المشهد كالعادة -وكما كنا نتوقع ونخشى- لم يلبث أن تلوث بالدم والمكائد والحسابات السياسية، وقفزت عليه ثعالب النخبة وقرود الثورة، حتى إننى أشعر الآن بالقلق والخوف والتوتر، وتأكد لى أننا «شعب فقرى» لا تعيش له «ثورة». ومع ذلك سأكتب عن تلك الأيام الأربعة، مثلما كتبت عن الأيام الثمانية عشر التى سبقت تخلى «مبارك» عن الحكم.. وليته ما تخلى. سأحاول فى تلك الأيام العصيبة التى نعيشها أن أستعيد إحساساً لا أظن أننى سأعيش حتى يتكرر، فمصر لا تستيقظ على هذا النحو بسهولة، وبتلك الكثافة.
عندما رأيت مصر وهى ترفرف وتغنى وترقص فى الشوارع والميادين بلا تمييز ولا سقف للفرح.. بكيت واستصغرت الكتابة: مصر بلد غامض، معقد، مستعصٍ على الفهم والمودة. مصر تشبه بنتاً جميلة، طائشة و«لعبية».. لكنها ليست سهلة، ولا يمكن ترويضها: لا بـ«تسبيلة» ولا بـ«نص مقدس»، ولا تعرف إن كانت تحبك وتريدك.. أم تخايلك وتلعب بأعصابك!. مصر تسلمك نفسها طائعة، راضية بقسمتها، وفجأة تنقلب عليك وتوقفك عند حدك. مصر لا تشيخ أبداً، فالشعر الأبيض فى رأسها «حيلة»، وانحناءة الظهر «حيلة»، والتراب الذى على حذائها «حيلة»، وساعة الجد تستدعى عمقاً ثقافياً وحضارياً بعيداً، لا أنا ولا أنت نراه بالعين المجردة، وتتحول إلى ما كانت عليه فى 30 يونيو.
عندما رأيت صورة عبدالفتاح السيسى وسمعته يتحدث.. بكيت واستصغرت الكتابة: هذا رجل مصر و«خيالها» وأيقونتها الجديدة. هل أكون مبالغاً إذا قلت إن فى هذا الرجل نفحة من جمال عبدالناصر (سمعت بالفعل أنه ناصرى)؟. الدهاء نفسه، والكبرياء نفسه، والوطنية نفسها: هكذا يقول بسطاء الناس فى مصر قبل نخبتها. أصبح «السيسى» بطلاً شعبياً بكل المقاييس. أصبحت كل الآمال معلقة فى رقبته، وأصبحت صورته -بوجهه السمح، الصارم فى الوقت نفسه، وبزيه العسكرى، وقوامه الصلب المفرح- تتوسط صورتى «عبدالناصر» و«السادات» فى غالبية مظاهرات المصريين، حتى إننى أكاد أشعر بأن «السيسى» سيصبح رئيساً لمصر... بالتزكية.
عندما رأيت مشهداً لضابط شرطة يوزع الماء والعصير على المتظاهرين فى «التحرير»، بينما يشب أحدهم ليقبل رأسه -كأن كلاً منهما يعتذر للآخر- ويصبح بين عشية وضحاها فتى أحلام بنات مصر.. بكيت واستصغرت الكتابة: إن كان لـ«المنزوع» وجماعته البغيضة فضل.. فهو عودة الشرطة إلى أحضان شعبها بعد عامين ونصف العام تقريباً من انعدام الثقة والاتهامات والتجريح والتعدى والتصفية الجسدية.
أى كتابة أمام هذا المشهد الذى لا يقل اكتمالاً وتعففاً عن مشهد الحُجاج وهم يطوفون أنهاراً ودوامات حول الكعبة؟. أى كتابة يمكن أن تفسره وترده إلى جذره الحضارى والثقافى؟ كنا طوال شهرين أو ثلاثة قبل زوال الغمة نفكر فى تخصيص عدد كامل من «الوطن» لذلك اللغز: «الشعب المصرى»، وكانت أفكارنا ونحن نتداول هذا الملف «المغرى» تدور حول سؤال واحد: كم شعباً لدينا.. وأى شعب نخاطب: الذى أسقط «مبارك» ونظامه.. أم الذى أتى بهذه الجماعة الماسونية إلى سدة الحكم؟. ترددنا كثيراً. خفنا أن نستعدى قراءنا علينا. سلمنا بقضاء الله وقدره، وعزينا أنفسنا بما لم نفقد إيماننا به: «لمصر رب يحميها»، وفجأة.. خرج من رحمها رهط من شبابها وفى يد كل منهم عود ثقاب: «تمرد».. واشتعلت ثورة لم نكن نحلم بها أو نتخيلها.. فانحنينا خاشعين.