«هذا المساء» كان الورقة التى نزلت على مائدة الدراما الرمضانية فالتهمت باقى الأوراق فقال كل شىء ببساطة وعمق. قدم المسلسل القضية الأهم والأخطر فى دراما رمضان، وأكد تامر محسن، صاحب القصة والمخرج، أن لديه رؤية للدراما متجاوزة حدود القصة المحبوكة والسيناريو المحكم، وأن لديه رؤية مختلفة.
«هذا المساء» دراما تدخل بنا إلى طريق جديد على مستوى الموضوع، وقد كان لتامر محسن الجرأة فى اقتحام طرق لم يسلكها أحد قبله، فطوّع الصنعة والإبداع لتحقيق هذا الهدف ببساطة.. ودون تعقيد أدركنا الكارثة.
وبدأ اجتياح الأسئلة: هل الإنسان أصبح رهينة هذه التكنولوجيا؟ وهل أصبح أسيراً لها أو أسيراً فى يد من يستخدمها ضده أو يصبح مجرماً بطريقة استخدامه لها؟
مؤكد نحن فى عصر انفجار الاتصالات الذى أصبحت التكنولوجيا تفجر فيه كل لحظة شيئاً جديداً بطريقة جنونية وممنهجة.. بحيث يبقى الإنسان أسيراً دخل دائرتها اللامتناهية ولا يستطيع أن يعيش بدونها متفاعلاً أو متصلاً بالآخرين، ولا يستطيع أيضاً أن يعيش بسببها حراً.
ما قاله المسلسل ببساطة أنه فى عز ما يشعر الإنسان أنه امتلك خيوط كل شىء.. وكل شىء أصبح سهلاً يكون هو فى الحقيقة مقيد الحرية وتفاصيل حياته بكل دقائقها مرهونة فى يد آخرين لا يعرفهم أو يعرفونه. أى أحد يستطيع اقتحام حياته بالكامل والاطلاع على أدق تفاصيله وتصبح حياته وأسراره مستباحة بشكل كامل.
ومع كل الوهم الذى يعيش فيه العالم فى فكرة الدفاع عن الحرية أو ادعاء ذلك وفى حقوق الخصوصية، فالمؤكد أننا فى لحظة تاريخية تسقط فيها كل هذه الأفكار تماماً، فالحرية والخصوصية مستباحتان.
نحن نقترب واقعياً من حالة الفانتازيا التى تقدمها الأفلام الأمريكية منذ سنوات طويلة، والتى تصور فيها الإنسان وقد أصبح مجرد لعبة (بالمعنى الحرفى) فى يد مجموعات أو منظمات مجهولة تحركه كيفما تشاء، بينما هو لا يتحكم فى أى شىء فى حياته حاضراً أو مستقبلاً. وبعض هذه الأفلام أوصلت الفكرة إلى أن العالم كله أصبح افتراضياً وأن ما يعيشه الإنسان ليس حقيقياً، وربما بعد قليل نصل إلى نتيجة تقول إن هناك دُمى مصنوعة على شكل بشر.. لا تستطيع التفرقة بينهما وبين البشر.
المسلسل نقل بكل بساطة هذه الأحاسيس لكل من تابعه؛ الإحساس بالرعب والخوف والقلق والامتعاض والاشمئزاز من فكرة أن الحياة الشخصية أصبحت عرضاً مفتوحاً قابلاً للتداول العام. ولهذا السبب لم يتوقف كثيرون عند اسم «هذا المساء» فهذه التسمية تقول بوضوح إن حياتنا أصبحت عرضاً مفتوحاً كما لو كنا نشاهد فيلماً سينمائياً.. وهى فكرة شديدة العمق والذكاء برغم البساطة التى قدمت بها. هى فكرة بدأت وانتهت من خلال دار سينما مهجورة بدلاً من أن تضىء بالفن والإبداع والشحنات الفنية التى تحرك الإنسان.. أصبحت وكراً لخفافيش الظلام.. وهى مفتوحة على محل اتصالات صغير موجود فى حى شعبى يتخذه مجموعة من الشباب غرفة عمليات سرية.. يطلعون من خلالها على حياة الآخرين ويتدخلون فيها ويمارسون الابتزاز والتهديد ويرتكبون كل أشكال الرذيلة.. فكل من وقع فى طريقهم أو مرَّ من أمامهم بجهاز هاتفى محمول فتح على نفسه باب جهنم.
أخطر وأذكى ما قدمه تامر محسن فى هذا المسلسل أنه جعل من يقوم بهذه الجريمة ليس شخصيات لها مواصفات خاصة من العلم.. ولكنهم شباب فى غاية البساطة سواء على مستوى العلم أو المستوى الاجتماعى وليس لديهم أى قيم أو أدنى نسبة من الأخلاق ولكنهم يمتلكون بمهارة فن التعامل مع تكنولوجيا الاتصالات. وهذا يعنى أن من يقتحم حياتك ويستعبدك ليس كما كان فى عصور سابقة علماء متخصصين أو خبراء أو أجهزة أمنية تستخدم تقنيات غير متاحة للآخرين، ولكن الكارثة أن أى شخص متواضع المستوى يستطيع فعل ذلك.
وبالتالى من يتصور أنه بحكم وضعه الاجتماعى أو المادى أقوى أو لديه سيطرته، فهذا هو الوهم الكبير.. وقد جعل تامر محسن ضحايا هذه الجرائم ليسوا فقط من ينتمون لنفس الحى أو الطبقة الشعبية بل أيضاً من يملكون النفوذ والمال وفى أعلى درجة من درجات الهرم الاجتماعى.
هذا المسلسل هو الأخطر ليس فقط لأنه أول عمل يقتحم ذلك بعمق، ولكن لأننا نعيش هذا العصر المرعب، وانفجار الاتصالات أصبح هو الهاجس والعنصر المشترك فى نوع الحياة التى نعيشها الآن.
نهاية المسلسل فى غاية العبقرية، وإن كانت غير قابلة للتحقيق فى الواقع إلا أنها مثيرة للتفكير. فقد تم حرق هذه السينما.. وإذا قمنا بمد الخط على استقامته فهل نستطيع التخلص من هذه التكنولوجيا المرعبة؟ مؤكد أن هذا الحل الدرامى غير واقعى فى ظل انفجار التكنولوجيا التى تأخذ المجتمعات إلى الدمار بداية من جنون الاتصالات وصولاً إلى الأسلحة النووية.
فكرة التجسس على الحياة الخاصة أو غيرها لم تعد على مستوى شخصيات بل رأيناها فى الانتخابات الفرنسية والأمريكية الأخيرتين. وإذا كان الحل الدرامى الذى قدمه المسلسل غير قابل للتحقق فى الواقع، فهناك إشارات تؤكد أن هناك من البشر من يستطيع أن يعتصم بإنسانيته، وأن هذا النوع ينجو فى النهاية مهما تعرّض لاختبارات.. وهذا النوع لا يكون متورطاً فى الألعاب الجهنمية للتكنولوجيا مثل شخصية «عبلة» التى قدمتها حنان مطاوع باقتدار. فهى تملك من القوة الإنسانية ما يجعلها تعبر أزمتها.
الاعتصام بالإنسانية والنبل البشرى هو السبيل للحماية من الانهيار الإنسانى.