أجلت الحديث عن إضراب السجناء الفلسطينيين الذى دام قرابة 72 يوما مرارا.. واليوم يسعدنى أن أتحدث عن البطون الخاوية للأسرى الفلسطينيين التى هزمت الآلة الأمنية الإسرائيلية المسلحة وقهرتها.. وهو رقم قياسى لا يعرف معناه سوى أمثالى ممن قضوا سنوات طويلة فى المعتقل.
وقد جربت الإضراب عن الطعام فى المعتقل مرات عديدة فوجدته شديد القسوة ويصاحبه ألم شديد وضغوط شديدة على القائد من أجل أن يوقف الإضراب أو يعلقه. ويعد الإضراب عن الطعام أكبر امتحان بدنى ونفسى وإنسانى للسجين بعد محنة دخوله السجن.. إذ إنه يعد مباراة غير متكافئة على الإطلاق بين سجين جائع قلق تغلق عليه الزنزانة وتمنع عنه الزيارة وبين سجان ممكّن مسلح شبعان هادئ يعود ليلا إلى أسرته وأولاده يضحك بينهم ويمزح ويمرح.. فمن قواعد الإضراب الغريبة إغلاق الأبواب على السجين ومنع الزيارة عنه.. حتى لو كانت مفتوحة قبل ذلك.
وقد مكثت فى المعتقل 24 عاما كاملة قام فيها الإخوة بعشرات الإضرابات.. عشت فيها ومعهم آلامهم وجوعهم وأحيانا عطشهم.
وفى الإضراب يضطرب القائد ما بين رغبتين أولاهما تحقيق أهداف الإضراب والثانية الشفقة على أبنائه وتلاميذه والخوف على تدهور صحتهم أو أن يترك الإضراب مرضا مزمنا فيهم.
ولذلك فإن الإضراب الجيد لا بد أن يكون معه تفاوض جيد.. وألا تقطع شعرة معاوية بينك وبين إدارة السجن وأن يكون له إعلام جيد خارج السجن وإلا فشل الإضراب وأضر بك وأعادك للخلف خطوات كثيرة.
ومن أخطر نماذج الإضراب التى لا أنساها أبدا حالة أخ وصديق كان من جماعة الجهاد أضرب 45 يوما متواصلة عن الطعام والشراب معا.. وكنت دائما أنهى الإخوة عن تطويل مدة الإضراب أو إضافة الامتناع عن الماء إلى الطعام للخطر على الكلى والكبد.
وقد نصحت هذا الأخ أن يفك الإضراب لخطورته على الكبد والكلى دون جدوى. ثم قابلته بعدها بعام وهو يعانى من استسقاء وفشل كبدى.. وقال: «يا ليتنى استمعت لنصحك».. فتألمت له كثيرا.
وفى كل الإضرابات الطويلة والتى جاوزت أحيانا 20 يوما كنت أخاف على صحة الإخوة.. وكنا نلجأ إلى أى جندى ليشترى لنا أى شىء نوزعه على الإخوة خلسة.. وكنا نستعين بالصيام المتواصل فنتسحر بتمرة ونفطر على الماء.
وفى إحدى الإضرابات كانت تأوى إلى غرفتى قطة اسمها «رزة» وشقيقها «عنتر».. وكنا مضربين وقتها فلم أجد لهما طعاما.. حيث إننى المصدر الوحيد لطعامهما.. فجاء جنود الحراسات بعدد من الأرغفة البلدية عند باب العنبر وانصرفوا لإحضار باقى مهماتهم.. فما كان من القط «عنتر» إلا أن خطف رغيفا وأحضره إلىّ فى غرفتى ففرحت بذلك وكنت جائعا فأخذته منه وقلت له: يا عنتر اذهب وأحضر غيره.. فذهب سريعا وأحضر رغيفا آخر.. وكأنه يفهم ما أقول.. أو أن الجوع وهبه الحكمة.. فأعطيته بعضه وأكلت الباقى، مما أعاننى على المواصلة بشىء من الصبر.
والغريب أن «عنتر ورزة» كانا من القطط المدللة لدى حامل القرآن العطوف حسن عاطف، الذى كان مولعا بتربية القطط.
لقد جربنا الجوع وألمه فى الإضرابات فكنا نشتاق إلى كسرة خبز أو قطعة من الجبن أو التمر.
فتحية إلى هؤلاء الأسرى من أسير سابق.. وتحية إلى كل من يساندهم.. وتحية إلى كل صابر راضٍ عن الله وقضائه وقدره.