لقد كان طريق مصر إسكندرية الزراعى وطرق القاهرة إلى كل المحافظات قديماً تتميز بوجود لافتات إرشادية متواضعة فى شكلها ومكتوبة على ألواح وأسهم خشبية، لكنها كانت تدلك على اسم كل بلد أو قرية أو مدينة تمر بها، وحول الطريق خدمات لا تخطئها العين.. ثم فى بداية السبعينات استُبدلت اللوحات الخشبية بلوحات من الحديد، وكانت واضحة ومتميزة، وفجأة فى منتصف السبعينات ظهرت مافيا الخردة، وانطلق اللصوص فى كل الطرق ينتزعون اللافتات والإشارات ويبيعونها، ومعها الأسلاك الحديدية الشائكة والمخلفات المعدنية على الطرق وفى والصحراء الغربية.. ولم تتحرك الحكومة آنذاك بالجدية الكافية، فأصبحت الشوارع لا تجد من يدافع عنها، وأصيبت بالخرس.
واليوم شوارعنا واسعة وجميلة ومرصوفة بعناية، لكنها ما زالت تعانى من حالة الخرس، فلا لافتات إرشادية ولا عبارات توضيحية، ولا أسماء المناطق التى يمر بها الشارع، ولا إضاءة ولا دليل للباحث عن اتجاه أو عنوان أو خدمة، وحتى الشوارع العملاقة التى أُنجزت خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وفى زمن قياسى ويشهد لها الجميع بالجودة والسرعة وبلغت أكثر من 800 شارع ضخم وكوبرى ووصلات بين المحافظات، نادراً ما تجد عليها لافتات، وإن وُجدت فهى غير دقيقة ومربكة وبعضها أكلها الصدأ، وجزء منها سُرق أو سقط بفعل الرياح ولم يجد صيانة لائقة.. والقليل من اللوحات فى شوارعنا حديثها أشبه بلغة الصم تحتاج إلى من يشرحها لك، وربما تضطر للوقوف أمامها بالسيارة لتدقق فيها وتتمنى أن تفهم ما تقول.. إنها طرق جديدة وجميلة ومفيدة وتوفر الوقت والجهد، لكنها خرساء مربكة.
وفى الستينات كانت أسماء الشوارع والحوارى فى المدن تلمع فى الليل وبارزة الحروف والألوان فى النهار، وكنا نحفظ اسم الشارع بمجرد المرور به ولو مرة واحدة، وكنا نتذكر أسماء مواقع المحلات والشركات والمؤسسات الحكومية وأقسام الشرطة والمستشفيات والمساجد والكنائس والمرافق باسم الشارع وتقاطعاته وبدايته ونهايته.. وكانت بعض المؤسسات والشركات تضع لافتات وأسهماً إرشادية تسهل للناس الوصول إليها.
وكانت الإقامة فى الشارع والحى والعطفة والزقاق والمنطقة تدل بوضوح على الكثير من صفات وسلوكيات البشر الذين يعيشون فيها، فهذا شارع «راقى»، وذلك شارع صاخب، وهناك شارع كل أهله من «ولاد البلد الجدعان»، وهذا شارع ملىء بتجار بضائع معينة، وخلفه شارع تجد فيه لوازم الأفراح، وهذا يوصلك من مسجد السيدة إلى مسجد الحسين سائراً وسط الأزقة، ونحفظ الطريق بسهولة رغم طوله، وتدلنا لو تهنا أسماء الشوارع الواضحة.. فأين ذهبت تلك اللافتات؟ ولماذا أهملنا أسماء الشوارع وهى مكون أصيل فى الشعور بالانتماء للحى والمنطقة والجيرة والوطن؟
أتمنى على السادة المخططين والمنفذين لمشروعات الطرق وتحديث العشوائيات أن ينتبهوا إلى أهمية وضع أسماء واضحة وإشارات دالة على الشوارع حتى تعود إلى شوارعنا بهجة الكلام وتتخلص من حالة الخرس التى أصيبت بها مؤخراً.. إنها أشياء قد تبدو بسيطة لكن أثرها عظيم فى بناء الشخصية واحترام المكان والانتماء له.. وليبحث كل منكم عن ذكرياته التى لا تُنسى وسيجد أنها مرتبطة باسم شارع أو حى أو منطقة، ولو حذفنا من الشوارع الأسماء والإرشادات فكأننا نخلخل منظومة الذكريات الإنسانية التى تصنع الشخصية وتبنى التجارب والطموحات والآمال.. ندعو الله لشوارعنا بالتخلص من حالة الخرس والعمى التى تزعج الجميع.. والله غالب.