راودتنى اللعوب عن نفسها فوقعت على الفور فى براثن إغوائها، كغر مراهق، مبهوراً بسحرها الخاص وعبيرها الفواح؛ فرحت أنهل من مفاتن رشاقتها ورحيقها الفيّاض ونكهتها الأثيرة.. وفى غمرة سعادتى بكنوزها الظاهرة والمخبوءة تغاضيت عن أن تبادلنى حباً بحب، واكتفيت -كالرومانسيين العظام من الأدباء والشعراء- بكرم سماحها بقرب الوصال دون التزام بوعود مخملية أو عطايا خاصة أو أمل براق.. وكان عزائى فى هذا أن تسعة أعشار الحب موجود فى المحب وليس فى المحبوب.. وكان قدوتى فى ذلك «رامى» و«كامل الشناوى» و«محمود حسن إسماعيل» وكل الذين أحبوا «مى زيادة» من طرف واحد كـ«خليل مطران» و«لطفى السيد» و«أنطون الجميل» و«العقاد» و«ولى الدين يكن» و«مصطفى صادق الرافعى»، وعن البعد «جبران خليل جبران».. إلخ.
ولعلكم تدركون عذابات الرومانسيين التى تتحول من طول الصبر بلا أمل، والهجر والصد، والإقبال والإدبار والوصال والتمنع، إلى نوع من تعذيب الذات الذى يصل إلى درجة المرض النفسى المسمى «المازوكية». وهو يصيب بعض شعراء المدرسة الرومانسية، كما يصيب «الكائنات الزملكاوية»، وشعارهم المرفوع عالياً خفاقاً هو: «لا يهم أن تحبنى كما أحبك.. يكفى فقط أن تمنحنى شرف أن أحبك».. إنه يحب الحب.. ويحب الهجران.. ويسعد بالمحبوب الذى يشجيه أنينه كلما شكا له أساه.. فيقول «رامى»: «ياللى كان يشجيك أنينى/ كل ما أشكى لك أسايا/ كان منايا يطول حنينى للبكا وانت معايا/ حرمتنى من نار حبك وأنا حرمتك من دمعى/ ياما شكيت وارتاح قلبك أيام ما كنت أبكى وأنعى/ عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك/ وتجيب خضوعى منين ولوعتى فى هواك».
لقد أصبح وهو فى حالة الذل والهوان والخضوع والتصاغر تلك.. أصبح يحب الحب من بعد عشق الحبيب.. و: «عايشين رضاك/ والبعد طول جفاك/ عطف حالى على قلبي/ وعزانى فى تلويعي/ صبحت أبكى على حبى/ وتبكى إنت على دموعى».
وهكذا أيضاً ينعم الزملكاوية «بالمازوكية».. إنهم يستمتعون بالهزيمة فى كل الأوقات.. فى الصيف والشتاء والخريف والربيع وفى كل مكان بأرضهم أو بأرض غيرهم.. ويخسرون كل المسابقات المحلية والدولية والمباريات الودية.. ويقضون لياليهم الطويلة يبكون حظهم العاثر ويصمون الحكام بالرشوة والشمس الساطعة بالتآمر ضدهم لأنها تضايق عيونهم فتجعلهم يخطئون المرمى، ويلعنون تلك المستديرة الخائنة التى تهجرهم فتنام فى فراش الآخرين.. لكنهم على حبهم لها باقون ولا يختلفون.. ومهما قلت لهم إن الإنسان منا يولد أهلاوياً لا يسمعون.. ولا يعون.. وفى غيهم سادرون.. ولله فى خلقه شئون.
منذ سنوات دعتنى الفنانة دلال عبدالعزيز لحضور عرض مسرحية «مونودراما»، التى تقوم ببطولتها، وهى من تأليف الكاتب الألمانى الشهير «بريخت». هى «الأم شجاعة».. فرحبت فأجلستنى فى الصف الأول وعندما انفرج عنها الستار حيتنى بإشارة من يدها وابتسامة رقيقة.. وبدأت على الفور تندمج فى إهاب الشخصية فى «مونولوجات» طويلة يتصاعد فيها الحوار تصاعداً محتدماً فيتصاعد انفعالها ساخناً يجيش بعواطف ملتهبة متجاوزة بأدائها المبهر الأخاذ دعائم مسرح «بريخت» القائم على إحداث مسافة بين المتفرج وبين الشخصية الدرامية على المسرح ليفسح المجال للعقل أن يطرح ويناقش قضايا فكرية لا مكان فيها للعواطف الإنسانية التى تميز مسرح «التراجيديا» ومسرح «الميلودراما».
والحقيقة أننى انحزت لطريقة أداء «دلال» المعتمد على التقمص والاندماج وإثارة المشاعر الحميمة والعواطف المشبوبة.
وفى غمرة استمتاعى وسعادتى بتألقها، داهمتنى تلك العشيقة اللعينة الغادرة بسعال حاد ومزعج.. حاولت السيطرة عليه دون جدوى.. فأسرعت مهرولاً خارجاً من باب صالة العرض.
وفى الحمام واصلت السعال والتجشؤ.. واحتقن وجهى احتقاناً بالغاً.. وغارت عيناى.. وتقطعت أنفاسى وصرت فى حالة يرثى لها من التداعى والانهيار.
وما إن هدأت حتى عدت أدراجى إلى صالة العرض بعد أكثر من ثلثى ساعة من المعاناة الرهيبة من تلك القاسية التى أهدرت فى سبيلها كل غالٍ ورخيص من ذوب نفسى وجماع مشاعرى.
لكنى ما إن استقررت فى مقعدى حتى باغتتنى الملعونة بنوبة سعال أخرى أكثر حدة من سابقتها فعاودت الهرولة إلى الخارج مجللاً بإحساس طاغٍ بالخزى والإحساس بالذنب.. فهل من المعقول أن تدعونى فنانة مرموقة لحضور عرض مسرحى تقوم ببطولته فبدلاً من الثناء على إبداعها أكاد أتسبب فى إفساد العرض بسعالى المتواصل؟!
قررت قراراً لا رجعة فيه بعد محاولات عديدة سابقة فاشلة أن أطلق ذلك الحب المدمر.. مهما كانت التضحيات حتى ولو كان الثمن مقاطعة أشعار الرومانسيين بل مقاطعة الشعر كله.
سحقت تحت قدمى آخر بقاياها التى أشعلتها وأنا ما زلت أصارع التحرر من ربقة عبوديتها أو مواصلة البقاء فى مهانة أحضانها.
فانتصرت لحريتى الإنسانية.. وكرامتى المهدرة.. و«مازوكيتى» المرضية.