نعم.. نحن فى حالة حرب. وجبهة الداخل، للأسف، لا تشعر ولا تشارك بالقدر الواجب. أخشى القول إن انفصاماً موجوداً فى الوجدان حادث لدى البعض بدرجة أو أخرى. الأسبوع الماضى كان الأمر فجاً، أو وقحاً، عندما تسرب إلى الوسائط الاجتماعية بعض صور بثها البعض من «نايت كلوب» أو نادٍ ليلى معروف لدى شباب «الخاصة» أو «كريمة» المقتدرين بشدة فى الساحل الشمالى. كانت الأغلبية المصرية غارقة فى كمد فقد «خلاصة المصريين»، استشهاد أحمد منسى ورفاقه الأطهار، وجاءت صور الملهى المبثوثة صادمة، كاشفة، عما أراه، ليس مجرد عار، أو تشوه، لكن أمراً له دلالته فى منتهى الخطورة. كيف واتت هؤلاء -حتى وإن كانوا قلة- الوقاحة، وأقصد تلك الكلمة، على السهر وخلافه وهؤلاء من شباب الوطن يتساقطون شهداء يومياً حتى لا تصل عربات الإرهابيين إلى بيوتهم أينما كانوا؟ كيف لا يدركون أن الوطن فى محنة، وأن وجودهم نفسه مهدد؟
حين رحت أتأمل الأمر، لم يطل الوقت لأرى سببين: أولهما أنهم «نتاج» أو «حصيلة» افتقاد قواسم مشتركة فعلية فى أنظمة تعليم وتربية اجتماعية، لعقود طويلة خلت فيها مصر ممن يدرك أنه مع انشطار أنظمة الاقتصاد وانحيازاته الواضحة، قد وُلدت فئات تتعامل مع الوطن باعتباره مجرد «سكن»، لا يدينون له بشىء، لا يعرفون له لا تاريخاً ولا علماً، ويرون أنهم مواطنون «دوليون»، لا يستخدمون حتى «لغته»، وربما يرى أهلوهم فى هذه اللغة لغة دونية، يستبدلونها بلغات أو لغة تتسق ونمط حياة يتعالى على كل ما هو مصرى. السبب الثانى أن المجتمع إجمالاً، وعلى رأسه «إعلامه»، يتعامل مع تلك الحرب الوجودية على أنها «جملة اعتراضية».. جملة يتوقف عندها عند اللحظة بما يراه وما عودنا عليه من تنديد و«تعازى»، ثم يعود لمساره.. يضع الشارات السوداء ويطعّم برامجه ومسلسلاته بفقرات حداد مصطنعة، أو حقيقية، الله وحده العالم، لكنها فى سباق البث الإعلامى المعتاد، تبدو كجسم غريب، ولا تتسق وبلد يستشهد له يومياً شباب.. أقصى ما يفعله هذا الإعلام بضعة ضيوف أو مربعات سوداء، يتخللها آيات أو عبارات يقتطعها من سياق خطب سياسية تقول إننا نحارب. السؤال: هل يتسق مناخ جبهة الداخل وما تواجهه مصر فعلياً؟ هل يتوازى ما يخوضه «الرجال» على جبهة سيناء، وهو أخطر ما تواجهه مصر فى تاريخها الحديث، والمزاج العام لجبهة الداخل؟ عندما يحدث إعصار طبيعى أو حادث طيران فى بلاد تفصلها بحار ومحيطات، يعلن الحداد، فكيف وأنبل الشباب يستشهدون؟
فى أثناء حرب الاستنزاف، وقبل حرب ٧٣، كان الانتقاد عبر السينما والصحافة لنوع مقارب من الاختلال، عندما كانت هناك هوة ما بين جبهة القتال وجبهة الداخل، على الرغم من أن «الانفصام» المجتمعى لم يكن بهذه الصورة، علاوة على اختلاف طبيعة الحربين. وقتها كانت مصر تحارب عدواً وجيشاً منظماً، وعدوك كان متمركزاً فى حيّز، وللحرب قوانين، وقواعد، حتى لو استولى العدو على مساحة من الأرض. اليوم «الوجود المصرى» كله مهدد.. مهدد من كل النواحى، وبكل الأبعاد.. هل يعى الجميع هذا المعنى؟ الأرجح أن الإجابة هى: لا.. هناك مصر التى تتلقى الرصاص والطعن نيابة عن الجميع، وهناك شرائح من مصر التى تعيش حياتها. هناك أمور لا ينبغى أن تُترك للمصادفة ولا للأريحية الفردية، ولا لكون «الواحد عنده دم أو معندوش». هناك أمور لا بد من توافر القصد فيها، التعمد. على رأسها خلق «المناخ و«السياق» الذى نحس فيه بوحدة «الروح» أو «المزاج» العام بين ما يجرى فى سيناء وما هو بالداخل، لا يمكن أن يتحقق ذلك والحياة، رغم كل الصعوبات الاقتصادية، تمضى بإعلام «موسمى»، قد يرى ملاكه أو أصحابه أنهم يؤدون ما عليهم، إعلام تأدية الواجب. لا بد من استعادة العلاقة بالوطن، فى جزر «التعليم» بأنواعه، والتى أعلنت استقلالاً وجدانياً فعلياً عن «الوطن»، سواء لأنها تعد نفسها «للخلافة» أو لأنها استوردت ليس مجرد نظام تعليم غير مصرى، بل استبدلت الوطن كله، فتحولت مصر بالنسبة لهم إلى سكن مفروش، أو فندق، لا يعرفون عنه أو منه غير أماكن مسورة بأسوار وجدانية، قبل أن تكون أسواراً من الطوب، فلم تعد تدرس تاريخه، ويفخر أولياء أمور تلامذته أن أولادهم لا يتكلمون لغة الوطن.
هناك «مظلة» وجدانية.. عتبة مشتركة.. مجال عام.. هو حد أدنى موجود فى كل الدول، بما فيها تلك التى يتوجه إليها كمثل ونموذج هؤلاء فى مصر الأخرى.. هذه المظلة لا تأتى وحدها، وهذه العتبة يشكلها ويقصدها مثلث التعليم والإعلام والثقافة، وهذا المجال العام وراءه رؤية، وكله لا بد أن يكون مقصوداً، وإلا فالمحصلة ما كان وجرى بدلالته، يوم الجمعة، وهو مجرد حدث كاشف، لم نكن بحاجة إليه لنتأكد.