يتعجب كثيرون من تلك البلدان الكبرى، طالما صدعت رؤوسنا بمواجهة الإرهاب وتحفيزنا على التكتل تحت قيادتها من أجل هزيمة الإرهاب والإرهابيين، وإذا بها عند أول محاولة جادة لمعاقبة من يجب معاقبتهم تنحاز لأحد أكبر ممولى التنظيمات الإرهابية وأحد أكبر المحرضين بالصوت والصورة على هدم الأمم وإفناء حياة البشر وتدمير الحجر. فمنذ اللحظة الأولى لقرار الدول الأربع المُقاطعة لقطر، رأينا مواقف أوروبية وأمريكية اجتمعت على أمر واحد وهو حماية قطر ومنع معاقبتها والدفاع عنها والبحث لها عن مخارج تحفظ كرامتها وسيادتها، ولم تضع تلك الدول المنحازة فى اعتبارها أن الدول الأربع المقاطعة هى دول رئيسية فى منظومة المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية سواء فى الإقليم أو فى العالم أو حتى على صعيد العلاقات الثنائية مع تلك الدول الكبرى التى قررت الانحياز لقطر وحمايتها. وكم كان ملفتاً للنظر أن رؤساء شركات أوروبية وأمريكية كبرى فى مجال النفط والغاز تسابقوا -أو بالأحرى تهافتوا- على زيارة الدوحة وتوقيع اتفاقيات استثمارية طويلة الأجل فى هذين المجال المهمين فى ظل أزمة تنذر بالكثير من النتائج الوخيمة. ثم جاءت زيارات وزراء الخارجية لكل من ألمانيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا لتدعم ما أرادته تلك الشركات الكبرى من فصل بين السياسة والتجارة، زعماً بأن هذا الفصل هو مبدأ عولمى لا يجب تهديده أو تجاوزه. وبعبارة أكثر وضوحاً أن هذا الفصل يحقق مصالح تلك الشركات بغض النظر عن أى شىء آخر.
لا شىء فى مواقف الدول المنحازة يتعلق بالقيم الأخلاقية والإنسانية التى يفضلون التشدق بها وكأنها مبادئ مقدسة لا تفريط فيها، فى حين كل مواقفهم العملية عبارة عن تجاوزات وانتهاكات لكل تلك القيم الأخلاقية والإنسانية. فالمصالح هى الأساس، وتحقيق الربح هو المعيار الذى يحرك هؤلاء، وحماية أدوات تطبيق الاستراتيجيات التى يضعونها وستر عوراتها هو المنهج الذى لا حياد عنه، وهو ما رأيناه فى قطر بدون أى رتوش أو محاولات تجميل مصطنعة.
من العجيب أن تفتح قطر بكل سهولة سجلاتها المالية والاستخبارية لألمانيا فى هذا التوقيت بالذات، وأن تُعلن الدوحة عن زيادة إنتاجها من الغاز بنسبة 30 فى المائة للسنوات الخمس المقبلة وبما يحقق طموحات الشركاء كـ«توتال» التى سوف تستثمر 3.5 مليار دولار لتطوير حقل شاهين للغاز، ومن ورائها شركتا شل وإكسون موبيل اللتان تسعيان لاتفاقات مماثلة فى مجالى إنتاج وتسويق النفط والغاز القطرى. ولعل العبارة التى ذكرها رئيس «توتال» الفرنسية بعد الاتفاق السريع مع أمير قطر على تطوير حقل شاهين لمدة 25 سنة مقبلة، ذات دلالة. فحين سُئل عن علاقة الأزمة القطرية مع أربع من الدول المهمة عربياً وخليجياً بتوقيع العقد، قال إنه ليس عليه أن يفاضل بين الدول، فهو قطرى فى قطر وإماراتى فى الإمارات وإيرانى فى إيران. باختصار فالرجل وأمثاله لا ولاء لهم إلا العائد المضمون والربح السريع، ولا يهم هنا إن كان هذا الطرف أو ذاك يمول الإرهاب أو يحرض عليه أو يشارك فى قتل أبناء شعوب ودول أخرى، فهذه العناصر لا قيمة لها فى عرف الشركات العولمية العملاقة التى توجه حكومات بلدانها ماذا تفعل وماذا تقول.
فى الوقت ذاته توقع الدوحة اتفاقيات لشراء طائرات حربية أمريكية حديثة قيمتها 15 مليار دولار، وتشترى من إيطاليا خمس فرقاطات وزوارق حربية بقيمة 5 مليارات دولار، وتستقبل قوات ومدرعات تركية لتعزيز القاعدة العسكرية التركية فى قطر. كل ذلك يفسر جزءاً من الانحياز الأمريكى الأوروبى لقطر، فتلك الدولة الصغيرة التى تُرى بالكاد على خرائط العالم، تمتلك احتياطياً هائلاً من الغاز، يوفر لها دخلاً سنوياً يتراوح بين 120 و140 ملياراً سنوياً، ولديها 360 مليار دولار احتياطى، وقبل عدة سنوات أسست صندوقاً سيادياً بقيمة 200 مليار دولار يستثمر فى كافة المجالات فى عدد كبير من الدول. بعض التقارير المتخصصة ذكرت أن حجم الاستثمارات القطرية فى دول بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والهند والبرازيل والولايات المتحدة والصين وإثيوبيا وماليزيا والأرجنتين بلغ 500 مليار دولار، وإذا أضيف إليها حجم الأنشطة السرية التى تديرها قطر سيصل المبلغ إلى 1٫2 تريليون دولار. وتتنوع مجالات تلك الاستثمارات لتشمل البنوك والعقارات والفنادق الشهيرة والزراعة والترفيه وصناعة السينما وصناعة الملابس الجاهزة من ماركات عالمية شهيرة وصناعة أدوات التجميل لأسماء مشهورة عالمياً، إضافة إلى الأندية الرياضية الكبرى.
نحن إذاً أمام شركة عولمية متنوعة الأنشطة وليست دولة، ولكل من هذه الشركات الكبرى التى يشارك فيها الصندوق السيادى القطرى بنسب تتراوح من 30 فى المائة إلى 100 فى المائة، تأثير كبير على حكومات بلدانها وصناع القرار فيها. ولا عجب أن تتحرك فرنسا مثلاً من خلال وزير خارجيتها ليزور ثلاثة بلدان خليجية ناصحاً بأن يكون حل الأزمة سريعاً وفى إطار خليجى وبدون تصعيد وعبر الوساطة الكويتية، وفى الخلف من وراء ذلك حماية استثمارات شركة توتال النفطية وتوسيع حجم الاستثمارات القطرية فى الداخل الفرنسى. ويذكر هنا أنه أثناء ولاية الرئيس السابق أولاند استثمر الصندوق السيادى القطرى ما يقرب من 20 مليار دولار فى داخل فرنسا، وتم منح هذه الاستثمارات امتيازات ضرائبية كبيرة أثارت حفيظة رجال أعمال وشركات فرنسية كبرى. وما ينطبق على فرنسا يمتد إلى غيرها من الدول الأوروبية كبريطانيا مثلاً، والتى تتميز عن باقى نظرائها الأوروبيين بأن الاستثمارات القطرية لديها تتجاوز 30 مليار دولار، كما أنها مقر نشط لعدد كبير من الأنشطة والمواقع الإعلامية التقليدية والإلكترونية والصحف التى تمولها قطر وتديرها جماعات إخوانية وإعلاميون بريطانيون تذوقوا طعم الأموال القطرية الهائلة نظير قيامهم بخدمة التنظيم الدولى للإخوان وتشويه العديد من النظم العربية إعلامياً.
حين تواجه دولة فى شكل شركة تحيطها مئات الشركات العملاقة، تتغير الحسابات كثيراً عن حالة المواجهة مع دولة تراعى المواثيق الدولية والتفاهمات التى يتوصل إليها العالم من أجل ضمان بقاء علاقاته وتفاعلاته فى إطار مفهوم ومقبول. والمسألة هنا لا تتعلق بالانحياز اللحظى القائم على تعزيز المصالح والمكاسب، ولكنها تتعلق أيضاً بالقيم المغدورة التى أثبت الغرب أنه يتلاعب بها، كما يتلاعب بمصائر الشعوب والأمم دون أن تتحرك فيه ذرة واحدة من الندم.