ترددت كثيرًا قبل كتابة المقال لأن الموضوع يحتمل وجهات كثيرة ومتعددة وكل منا تعامل معه من زاويته الخاصة، ولكن الطرح الحالى سيختلف كثيرًا عما تم تداولته مواقع التواصل الاجتماعي؛ الفيسبوك وتويتر.
لقد تعجبت من انتشار الموضوع بهذا الشكل المفزع! وتوارد إلى ذهنى العديد من الأسئلة: لماذا تم إلصاق لفظ بنت البواب بكل الأخبار فى جميع الوسائط والبرامج؟ لماذا لم يحظ أحد من الأوائل بما حظيت به مريم حتى أننا لا نعرف أسم أى منهم؟ لماذا أصبح الجميع يردد فى شغف اسم مريم؟
ومن هنا تبدأ حكاية المجتمع ورواد التواصل الاجتماعى الذين أصيبوا بالازدواجية الفكرية للصق صفة والد الفتاة بتفوقها. وانتشر فى كل "المانشتات والتهاني" "مريم بنت البواب " وهو ما دعانى لكتابة تلك السطور.
مريم بنت لأسرة متواضعة تعيش مع والدها فى غرفة واحدة بجراج عمارة بمدينة نصر، حيث انتقل والدها من مسقط رأسه "الفيوم" منذ ما يقرب من عشرين عامًا بحثًا عن مصدر رزق، ومريم شأنها شأن كثير من المصريين البسطاء الذين يعيشون بمتوسط دخل عادى يكفى المعيشة فقط، ولو دققنا النظر نجد أن غالبية المصريين فى نفس حالتهم.
استطاعت مريم أن تحصل على المركز الأول دون دروس خصوصية، وذكرت فى سياق حديثها مع معتز الدمرداش فى برنامجه 90 دقيقة: "كنت بذاكر واجتهد علشان أعرف المعلومة من الكتب، ولو كنت طلبت من والدى دروس مكانش هيتأخر"، كانت تذاكر فى محل مفتوح على الشارع ويتناوب والدها ووالدتها على الجلوس معها والتخفيف عنها، حتى تنتهى من مذاكرتها وتعود لسكنها لتنام، ولم تحقق مريم هذا النجاح والتفوق وحدها، ولكن ساعدها كل فرد من أفراد أسرتها المترابطة فى زمن عز فيه الترابط الأسرى. ذكرت مريم دور كل منهم فى تفوقها، لا تخلو عباراتها من كلمات الشكر والعرفان لوالدها ووالدتها وما يفعلانه من أجلها هى وشقيقاتها: "تعبت وسهرت ومكنتش بشوف النوم علشان أفرح أبويا وأمى ومهما عملت مش هاقدر أوفى 1% من اللى عملوه علشانى"، تصف مريم والدها بالأب المثالى وتصف والدتها بالأم المثالية.
وانتهت القصة السعيدة ويبدأ الواقع يأخذ مساره الطبيعى، وأقدم لك أيها القارئ العزيز بعض التساؤلات التى من شأنها أن تحسم القضية وتبصرنا إلى النور الذى لابد أن نعرف إجابته الحقيقية.
لماذا تم إلصاق صفة والداها فى كل العناوين؟ مريم بنت البواب! أليس من تكرارها يؤكد ويرشح الطبقية التى تفشت فى مجتمعنا المصرى بكل أسف؟ وماهى إلا متاجرة بتفوقها برغم فقر أهلها.هل سنظل نحتفل بمريم المتفوقة أم هى نزوة الإعلام وستنتهى خلال أيام؟ هل هناك نية لرعاية المتفوقين ومتابعتهم من قبل المجتمع المدنى أو المؤسسات الرسمية؟
هل لو تخرجت مريم خلال السنوات القادمة من إحدى الكليات. على سبيل المثال الحقوق هل ستعين فى النيابة؟ هل لو تخرجت مريم من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق وتقدمت للعمل بالسلك الدبلوماسي؟ هل ستعين فى الخارجية؟ هل ستتاح لها الفرصة أم سيتم استبعادها نظرًا لتدنى المستوى الاجتماعي؟ غير لائق اجتماعيًا، وهذا يرجعنا كما تم تصويره فى المشهد العبقرى من عمارة يعقوبيان لطه الشاذلى ابن بواب العمارة الشاب الذى يحلم بدخول كلية الشرطة واجتاز كل الاختبارات ولكن رفضت أوراقه فى النهاية بدافع أن والده يعمل حارس عقار مما دفعه إلى الإنزواء والتشدد الدينى وتحول من شاب يحلم بخدمة بلده إلى إرهابى ينتقم من كل من رفضوه. هل سيكون مصير مريم فتح الباب هو مصير طه الشاذلي؟
هل هذا ما يستحقه الأوائل والنابغين فى مصر محاولات فردية لتكريمهم من بعض الشخصيات العامة، حيث زار الكابتن أحمد حسن "لاعب المنتخب المصري" منزل مريم والتقط معها بعض الصور دعوة منه لتقديرها وتكريمها، والاعب وليد سليمان لاعب الأهلى المصرى يهدى مكافأة فوز القمة لمريم فتح الباب.
هل ستتاح لأبناء الطبقات الفقيرة الوصول لمناصب رفيعة المستوى كما فعلتها راعية الغنم المغربية وأصبحت وزيرة تعليم لفرنسا؟ هل يمكن أن يحدث فى مصر يومًا ما؟
هل ستظل العقلية المصرية وقناعات المواطن والفلاح البسيط تسيطر على قراراته؟ حيث رفض والد مريم عرض الالتحاق بإحدى الجامعات الأمريكية! وعرضا أخر من الجامعة الألمانية! والغريب فى الأمر إشادة أعضاء بمجلس النواب بموقف والد الفتاة مؤكدين أن التعليم فى مصر جيد؟ فيما قال البرلمانى فتحى قنديل " لن نسمح ببيع ابنتنا للأمريكان".
يمكن فى وجهة نظرى ده قرار خاطيء وممكن مع مرور الوقت مريم تندم عليه، ولكن ما يمكن فهمه من قرار الرفض اقتناع والدها أن الغلابة والفقراء يخافون النظر لفوق علشان عنيهم هتوجعهم وبرضوا هيفضلوا غلابة!
تعامل والد الفتاة بهذا المبدأ لأنه يرى أنها جامعات ولاد ذوات لا يستطيع على تكلفة الأشياء البسيطة لها من ملبس ومأكل ومصروف يتماشى مع الفئة الموجودة هناك، وحتى لا يسبب لها ضرر نفسى من أى نوع، مع العلم أن الجامعة غالبًا فى المنح تتكفل بمصاريف الدراسة والسكن والإقامة؟!. ام انه أصبح يردد كلمات الوطنية الزائفة التى سيطرت على عقول البسطاء وترديدها ليل نهار على شاشات التليفزيون وهو لا يعلم ان سفر ابنته الى دولة تقدر العلم وتحترم الانسان يكون مردودها عالى على الاسرة بالكامل وسيكون تعلم ابنتهم فى أمريكا هو أكبر إضافة لبلدها مصر.
الموضوع يمثل إشكالية كبيرة ومظاهر ترسخت فى عقول المصريين وسياسيات لابد النظر اليها بداية من "الازدواجية الفكرية، العنصرية، الطبقية، عدم وجود العدالة والمساواة، انعدام الحراك الاجتماعى الذى يصيب المجتمع بالشلل، كيفية تقدير الدولة ورعايتهم للمتفوقين والنابغين، وأخيرا متى يتم التعامل مع المواطن المصرى باعتباره مصريا فقط؟". وكل منهم يحتاج مقال منفرد للحديث عنه ولكنها تجمعت جميعها واثاراتها مريم فتح الباب، فبمرور الأيام هل سيكون مصير مريم فتح الباب هو مصير طه الشاذلى من التهميش والاستبعاد.