من بين بطلات محمد خان القويات الباحثات عن الحب، يربط ذهني دائما بين شخصيتين إحداهما تثير شفقتي والأخرى بهجتي، "منى" في "زوجة رجل مهم"، و"نجوى" في "شقة مصر الجديدة".
ليست الرحلة من المنيا للقاهرة التي قطعتها منى مع زوجها هشام لبداية حياة جديدة، والتي قطعتها نجوى بعد نحو عشرين عاما مع طالباتها وزميلاتها فقط هى التي تجعل وجود إحداهما تستدعي بالضرورة الأخرى في خيالي.
منذ المشاهد الأولى في عالمي منى ونجوى أرى الصلة والترابط بينهما. نتعرف على منى الفتاة المراهقة التى تعلقت بعبد الحليم وأغانيه، ومعانيها التي شكلت معنى الحب لديها. لا تختلف أبدا عنها نجوى التي لقنها الحب دروس الموسيقى وأحاديث أبلة تهاني عنه، وكانت بداية تعارفها عليه أغنية "أنا قلبي دليلي" لليلى مراد. مفرادت منى ونجوى فى التعامل مع معنى الحب واحدةمنى التي تهرب من مدرستها لتشاهد فيلم بنات اليوم في السينما ونراها تذرف دمعة عندما تتهادى ماجدة وأمامها عربة الشاي، وعبد الحليم يغني "وألاقيك مشغول وشاغلني بيك وعنيا تيجي فـ عنيــــــــــــك".. تلك الدمعة التي سقطت من عينيها اختصرت فترة مراهقة الفتاة، وعبرت عن فترة مراهقتنا أيضا. نحن الذين لم نعش زمن العندليب، لنجدها فتاة ناضجة فى أواخر العشرين من عمرها، تستمع لحفلة حليم فى الربيع.
دمعتها ذكرتني بدمعة نجوى، التي سقطت وهى تطل من شباك فصلها مودعة أبلة تهانى عندما غادرت مدرسة الراهبات بالمنيا، لأنها تفسد أخلاق البنات بالكلام عن الحب. فنجد نجوى فتاة فى عمر منى تقريبا تطل من نفس الشباك، مُدرسة موسيقى فى نفس المدرسة. وأذا كانت مغامرة منى هروب من المدرسة للسنيما لترى حليم فمغامرة نجوى قامت بها فى داخل المدرسة نفسها حيث أصطحبت فتاها لغرفة الموسيقى لتعزف له لحن عن الحب علمتها إياه أبلة تهاني.
ظهور حليم الأول فى زوجة رجل مهم وسماع أغنياته طوال الفيلم ذكرني بظهور أبله تهاني الوحيد فى شقة مصر الجديدة، وصوتها الذي نسمعه حتى النهاية. موت حليم وحزن منى عليه ذكرني بعدم تصديق نجوى وأنزعاجها من فكرة أن تموت تهاني وتمسكها بأمل أنها ما زالت حية. تهاني هى الحلم وكل ما فقدناه منذ انتهاء زمن حليم. شرائط الكاسيت التى تشتريها منى، وتسجل عليها حفلات عبد الحليم، تحمل صوتها مع صوته( المنصورة .. 16اغسطس ..1972) لتربط الأغاني بالأماكن بالأيام، وتحفظ الذكريات الجميلة. ستارة جدتها المعلقة فى الغرفة تحمل علامات لزمن أكثر دفئا. خطابات نجوى وصندوق البريد وبرنامج ما يطلبه المستمعون التى تتبادل إهداء أغنياته مع أبلة تهاني، وتتمنى لها دوام السعادة، صورة ليلى مراد المعلقة فى غرفتها كلها أشياء تربطنا بزمن الحب الكلاسيكي الذى تفقده منى وتحاول إحياءه والتشبث به نجوى فى زمن آخر. "الكاريتة" التي تركبها منى في المنيا، في طريقها لمحطة القطار لتذهب لجامعتها فى اسيوط، تركبها نجوى للذهاب لعملها والعودة منه. محطة القطار مكان لقاء منى وهشام وحديثهم الأول هى مكان وداع ربما مؤقت بين نجوى ويحيى. مشهد المطعم الذى جمع بين منى وهشام قرب نهاية الفيلم فنراها روح بلا جسد، يقابله مشهد المطعم بين نجوى ويحيى حيث امتلأت نجوى بالحياة والجمال. فى تقابل المشهدين أشياء حدثت بعد قطع المسافة المكانية من المنيا للقاهرة..
أشياء فى الطريق فقدتها منى، التي خبرت الأماكن والناس وتنقلت مع أسرتها من بلد لبلد، لظروف عمل والدها. نراها كما أراد لها زوجها ممسكة بذراعه معتمدة عليه فى كل تحركاتها وتصرفاتها كطفلة صغيرة. يخلق عالمها وحدوده والأشخاص الذين يدخلوه والأماكن التى تذهب إليها لتجد نفسها غير منسجمة مع عالمها الجديد تكرهه، ولا تتحدث لغته غريبة عن كل من فيه حتى زوجها هشام. ضابط المباحث المتسلط المريض الذى يتعامل مع كل من حوله من منطلق هوسه بالسيطرة والقوة والنفوذ. فلما فقد السلطة وجد منى فريسة سهلة للسيطرة. وبديلة عن عالم فقده يمارس فيها سلطته الضائعة ويعزلها عن كل شخص أو ملجأ لها خارج حدود عالمه. حتى أغاني عبد الحليم المهدأ الذي يحملها إلى عالمها القديم. فقدت شخصيتها وهويتها كإنسانة. لا تقوى على فعل أى شيء ينقذها. نرى التحول فى شخصيها فى موقفين. أحدهما مجادلة بينها وبين رجل في حفلة تنكرية أصطحبها فيها هشام، بينما يجاري ويجامل الرجل كل الموجودين ليتضح لنا قوة شخصيتها والثقة التى جاءت بها للقاهرة. الثاني مشهد دخول هشام عليها وهى تهرب من عالمها بالاستماع لحليم. فيخرج الشريط من الكاسيت ويمزقه. تمزيق شرائط حملت ذكريات عالمها القديم، أجمل سنين عمرها قبل أن تلتقي بهشام لا يستدعى منها أى ردة فعل سوى تنهيدة صامتة.
حاولت منى مراراً أن تقطع الطريق عائدة للمنيا. تستنجد بوالدها فى المرة الأخيرة ليأخذها بعيداً عن عالم أصبحت الحياة فيه مستحيلة. يصوب هشام سلاحه ناحية الأب ليسقط قتيلا فتسقط منى على الأرض فى انهيار لتنتبه بعد لحظة على صوت طلقة أخرى صوبها هشام تجاه نفسه. انتهى الحب بمأساة مروعة وفى الخلفية نغمة أهواك خافتة جدا ممزوجة بنغمة أخرى جافة ومقبضة لتنسحب نغمة أهواك بهدوء مثلما اختفى زمن رومانسية حليم وأحلام منى وتبقى النغمة الأخرى مسيطرة.
في القطار نجد نجوى متلهفة لاستكمال رحلتها، شغوفة بلقاء تهاني لتسألها عن حقيقة وجود الحب الذى حدثتهم عنه وهم صغار. نجوى التي تغادر المنيا لأول مرة وتسمي النيل بحراً. قليلة الخبرة بالأماكن والتعامل مع الأشخاص. نراها مبهورة بمحطة مصر وشوارع وسط البلد ومعالم القاهرة عندما تركب التاكسي مع عم عيد السائق. تسأل شرطي المرور كيف أذهب إلى مصر الجديدة فيصف لها طريق المترو فتقبل سيارة أجرة تنادي "عباسية/ مصر الجديدة"، تركب دون تردد متلهفة للقاء تهاني. عندما تلمس بيانو تهاني في شقة يحيى كأنها تحتضن تهاني نفسها. تذهب إلى بيت حياة الممتلئ بالحياة التي صنعتها حكايات حب الفتيات. خبرتها التي أعارتها لنجوى مع فستانها القديم المبهج فجعلتها تشبه نجمات سينما الخمسينات. ذهابها للإذاعة التى ارتبطت بها للبحث عن دليل إهداء تهاني لها أغنية مؤخرا، كلها مصادفات سببت السعادة لنجوى.
تقابل في رحلة بحثها وتتبعها لعلامات وجود تهاني حية أشخاص غرباء عنها وعن بيئتها. رغم ذلك تجانست معهم بسرعة وأصبحوا جزء مألوف ومرغوب وجوده فى حياة نجوى لتكتمل. ارتبطت بالأشخاص والأماكن على حد السواء. عم عيد وشفيق وحياة وورضوى ويحيى كلها شخصيات تبحث عما تبحث عنه نجوى سواء يدركون ذلك أم لا. اكتشاف يحيى نفسه مع نجوى واحتياجه لفكرة الحب الكلاسيكي الذى كان يسخر منه. عندما تورط ليقوم بدور متصل يتكلم فى برنامج إذاعي ويكشف عن رغبته أن تشاركه من يحب أشياء بسيطة، فبدا مرتبكا ومشوشا لا يعرف نفسه جيدا.
بعض الحوادث جعلتها نجوى ذريعة للبقاء في القاهرة وتأجيل العودة للمنيا. تأبى أن تغادرإلا عندما تجد ما تبحث عنه. رحلة نجوى المبهجة التي عززت ثقتها بنفسها ومنحتها ما أرادت، يتجلى جمالها فى مشهد العودة السحرية لتهاني من خلال خطاب أرسلته لنجوى.
في نهاية الرحلة ضحت نجوى بذيل الحصان وانطلقت خلف يحيى على ظهر موتوسيكل في الطريق للمحطة. تجري لتلحق القطار خلف عروس سبقتها وصوت زغاريد يملأ المكان. وفى القطار الذي يحملها للمنيا تردد "0125136240" وفي الخلفية أغنية "أنا قلبي دليلي" كأنها تراتيل سماوية..
رحلة نجوى القصيرة للقاهرة هى رحلة استعادة كل ما فقدته منى فيها. أشعر بأن "خان" وهو يشكل شخصية نجوى من كلام على ورق وخيال كانت منى تراوده وعيناها الشابة التي تحتضن صورة عبد الحليم على شاشة السينما تلومه. حاول أن يمحو مأساة منى بنجوى. يصنع مسارا مختلفا لحياة فتاة تحلم بالحب وتربط عالمها بزمن الرومانسية البعيد. فى شقة مصر الجديدة سيناريو آخر لحياة منى لولا أنها أصبحت زوجة رجل مهم.