منذ أن قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952م، أى لنحو 65 عاماً، وفى هدا التاريخ تحديداً من كل عام، ونحن نشهد أو نعيش نفس السيناريو تقريباً، مع بعض الاختلافات. ننقسم على أنفسنا فى حالة من الاستقطاب الذى تزداد حدته عاماً بعد الآخر، وفى بكائية على اللبن المسكوب ما بين تفخيم وتعظيم وتقديس من جانب البعض وكلمات من جنس أن «ثورة يوليو كانت نموذجاً فذاً للتقدم والتحرر والوحدة القومية ليس فى مصر وحدها ولا العالم العربى بل أيضاً دول العالم الثالث جميعها»، وعلى الجانب الآخر لا تجد من البعض إلا اللعن والسباب والتحقير ويُسمعونك كذلك كلمات من جنس أنها «لم تكن إلا تجربة سجون ومعتقلات، وطمس للوعى، وإهدار لإنسانية الإنسان وما إلى ذلك».
وكلا الفريقين أو الرأيين -على تناقضهما- ينتهيان بنا دائماً إلى نتيجة واحدة مؤسفة للغاية وهى: العمل على محو أو طمس الوعى الصحيح لهذه الثورة، وإشاعة مجموعة من التصورات الزائفة حولها. ولكن دعونا نطرح تساؤلاً ربما يكون الأهم مما سبق وهو: ما مدى خطورة ما يحدث على مجتمعنا وتحديداً على شبابنا وأجيالنا المقبلة؟
لقد قرأت كلمات لوزير الخارجية الأمريكى «كوردل هل» (1933 - 1944م) أعتقد أنها لربما تجيب بشكل فيه شىء من العمق عن هذا السؤال، حيث قال:
إذا أردت أن تلغى شعباً فلتبدأ بشلّ ذاكرته التاريخية (ونضع هنا خطاً بل خطوطاً تحت تلك الجملة السابقة)، ثم تشوه ثقافته (وهنا أيضاً نضع الخطوط والخطوط الحمراء)، وتجعله يتبنى ثقافة أخرى غير ثقافته.. ثم تلفق له تاريخاً آخر غير تاريخه وتعلمه إياه.. عندئذ ينسى هذا الشعب من هو ومن كان وتندثر معالم حضارته.. وبالتالى ينساه العالم ويصبح مثل الأمم المنقرضة.
«وينسى الشعب من هو ومن كان وتندثر معالم حضارته»!! وهذا هو المراد تحديداً!
ولعل مرادى من هذا المقال لم يكن الدفاع عن شخص عبدالناصر وتجربته -التى لها ما لها وعليها ما عليها- قدر ما هو دفاع عن جزء هام من تاريخ مصر وعن ثورة مصرية بل وعن الثورة العربية عامة.
وكم أتمنى ألا تنجرف نخبنا على الجانبين إلى هذا المستنقع الملوث، سواء من كان يفعل ذلك بغير قصد أو من هو متعمد وعاقد النية والعزم، لأن المستهدَف فى النهاية هو طمس تاريخ مصر والتشكيك فى حركة الجيش الوطنى التى أيدها المصريون لتصبح ثورة شعب. ويجب أن نعى كذلك تلك اللعبة القديمة التى تجيدها بعض الدول الكبرى التى دائماً ما تقدم نفسها للعالم على أنها راعية للحريات ومعسكر للديمقراطيات، وما هى فى حقيقة الأمر إلا دول استعمارية وإن اختلفت طرقها فى الاستعمار عبر التاريخ، إلا أن أجهزتهم الاستخباراتية كانت وما زالت تعمل ضد استقلال الإرادة السياسية لمعظم دول العالم، وكثيراً ما يعزفون نغمات كالحرية وحقوق الإنسان، وكلها كلمات حق ولكن المراد منها باطل، وبكل أسف ينخدع بعضنا.
ومن هنا كان وسيظل الأهم دائماً أن نذكّر أجيالنا فى تلك الذكرى بالحقيقة البسيطة التى لا يختلف عليها اثنان وهى أن:
ثورة يوليو قامت من أجل هدف سام وهو الاستقلال الوطنى والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وذلك هو الثابت.
ولنعلمهم أيضاً أن التاريخ إنما هو عبارة عن علم إنسانى ومن طبيعة تلك العلوم أنها غالباً ما تنتهى إلى الترجيح وليس القطع كالعلوم التجريبية.