اعتدت النزول إلى ميدان التحرير منذ 25 يناير 2011، ودائماً ما أعتبره ترمومتراً أستطيع أن أقيس به اتجاهات الشارع المصرى. وعندما نزلت إلى التحرير يوم «مليونية التفويض» لاحظت أن ملمحاً جديداً بدأ يسيطر على الميدان، يتمثل فى وجود نسبة كبيرة من فقراء مصر وأبناء طبقتها الكادحة بين المحتشدين. دعنى أروى لك بعض المشاهدات من الميدان للتدليل على ما أذهب إليه. المشاهدة الأولى تتعلق بالشعارات التى كانت تتردد وتعكس المصريين البسطاء من فقراء هذا الوطن، من بينها: «سيد يا سيد.. مرسى مش حيعيد»، و«دلعه يا دلعه.. الشعب المصرى خلعه». إن بنية هذه الشعارات تعكس المخزون الغنائى للطبقة الفقيرة من أبناء أرضنا الطيبة. وتتعلق المشاهدة الثانية بالصور التى رفعها المتظاهرون، والتى يتجاور فيها «السيسى» مع «عبدالناصر» وبينهما «السادات»، أما المشاهدة الثالثة فتتعلق بالعبارات التى كان يرددها من يحملون صورة «السيسى»، أحدهم قال: «العو بتاع الإخوان أهه»، وقال آخر: «قالوا هاتوا لنا راجل.. جبنالهم السيسى». هذه المشاهدات جميعها تشير إلى أن أمير الجيوش استطاع من جديد أن يستعيد قطاعاً لا بأس به من الفقراء إلى المشهد ليعتمد عليهم كرصيد جماهيرى فى مواجهاته، تماماً مثلما كان يفعل «جمال عبدالناصر».
كانت «مليونية التفويض» تتنفس ساعاتها الأخيرة، حتى تم ضرب «كرسى فى الكلوب» عندما نشبت موقعة «المنصة» التى سقط فيها عشرات القتلى ومئات الجرحى، من أبناء جماعة الإخوان. اندهش وارتعد الكثيرون وهم يرون مشاهد الجثث التى تراصت داخل أكفانها إلى جوار بعضها البعض، وكان من بين هؤلاء المندهشين والمرتعدين بعض من سارعوا إلى الشوارع، تلبية لنداء الفريق أول «عبدالفتاح السيسى» لتفويضه وتكليفه بمواجهة العنف والإرهاب!
بدأت الأمور تضطرب أشد الاضطراب. لقد كان المصريون يريدون من «السيسى» التصرف بعيداً عنهم، فى حين أصر -من ناحيته- على ضرورة أن يفوضوه -شعبياً- بذلك، حتى لا يخرج أحد بعدها ويلومه على الدماء التى سوف تسيل. وتختلف موقعة المنصة عن موقعة الحرس الجمهورى، إذ فى الأخيرة كانت هناك ذريعة أخلاقية تحتج بها القيادة العسكرية، تتمثل فى محاولة المتظاهرين من الإخوان مهاجمة منشأة عسكرية. وفى تقديرى أن موضوع الذريعة الأخلاقية لمواجهة العنف أهم بكثير من مسألة التفويض بالمواجهة. فالمواطن البسيط يمكنه أن يتقبل فكرة مطاردة وقتل القاتل، ولو أن واقعة المنصة حدثت فى مكان وزمان مختلف لتباين إحساس الناس بها. فلو اندلعت هذه الواقعة على سبيل المثال على هامش تفجير سقط فيه العديد من الضحايا -لا سمح الله- لاختلفت المسألة، لكن أمر الله سبق وسهم قضائه نفذ فحدث ما حدث. وأتصور أن هذه النتيجة قد تدفع «السيسى» إلى التفتيش فى ملف تعامل عبدالناصر مع الإخوان، ليبحث عن مخرج جديد!
مقالات متعلقة:العسكر والضلالية (5)العسكر والضلالية (4)العسكر والضلالية (3)العسكر والضلالية (2)العسكر والضلالية (1)