توقفت - مؤقتاً- عن سلسلة «لا مؤاخذة» لثلاثة أسباب، أولها حالة «الهيجان» التى أعقبت نشر مقال «مرتزقة 25 يناير». كان موضع الخلاف أننى أبيت أن أسمى ما جرى فى ذلك اليوم «ثورة». الآن وقد هدأ غبار المعركة، أجد نفسى مصراً على أنه كان «انتفاضة». هى صحيح أزاحت مبارك ورؤوس نظامه عن الحكم، لكن «النظام» نفسه لم يسقط، إذ فضلاً عن أن «الإخوان» كانوا شريكاً فاعلاً فى هذا النظام وجزءاً أصيلاً من بنيته السياسية (دون أن ترقى شراكتهم حتى إلى مستوى فصيل معارض) فإنهم حكموا بنفس آلياته، بل تجاوزوا كل مساوئه التى يُفترض أن هذه الانتفاضة اندلعت لتقضى عليها: حل «التمكين» محل «التوريث»، وانهار الأمن والاقتصاد، وارتفع معدل الفقر، واجتاح قطار «الأخونة» كل مؤسسات الدولة، وانتُهِكَت حدود مصر من الجنوب والشرق والغرب، وتماهت «الدولة» فى «الجماعة»، وبلغ الأمر مداه فى حنين شرائح واسعة من المصريين -تلميحاً أو تصريحاً- إلى مبارك بكل مساوئه.. فليس أسوأ من حاكم «فاسد» سوى حاكم «خائن». كان لا بد إذن من «ثورة حقيقية» تقتلع بنية هذا النظام -وقد أضيف «الإخوان» إلى مساوئه- من جذورها، وهذا ما جرى فى «30 يونيو». وفى الوقت الذى كان «رموز 25 يناير» -ممن يسمون أنفسهم «ثواراً»- يتناسلون فيما بينهم ائتلافاً تلو الآخر، ويتكالبون على حصصهم من الغنيمة، وتحول معظمهم فى نهاية المطاف إلى «مرتزقة»، ثم إلى مخلب قط لـ«لإخوان».. كان هناك شرفاء يخوضون حرباً طاحنة ضد حكمهم، ويتصدون بعناد وبسالة لكل حملات التشهير والملاحقة. هؤلاء هم الذين مهدوا لـ«ثورة 30 يونيو»، وهم رموزها وصفها الأول، من أحمد الزند إلى باسم يوسف.. مروراً بتهانى الجبالى ومصطفى بكرى ومحمد أبوحامد وإبراهيم عيسى ولميس الحديدى.
والسبب الثانى لتوقفى هو أن «اللامؤاخذات» كثرت حتى تجاوزت قدرتى على ملاحقتها، فكان لا بد من هدنة. لقد انتابنى -ككثيرين غيرى- شعور بخيبة الأمل فى الأيام القليلة الماضية، فبعد أن كان طابور الإخوان الخامس قاصراً على عملاء تتراوح خيانتهم لضمائرهم بين نزق أسماء محفوظ بـ«لثغتها» المؤذية، ومكر فهمى هويدى بكل عمى بصيرته.. اقتحمت الطابور أسماء «ثقيلة»، كانت تحظى باحترام وتقدير -لا يخلوان من ظلال شك- مثل عبدالمنعم «أبو وشين» (أبو الفتوح سابقاً) ومحمد سليم «العو» (من دون حرف الألف)، و«طارق 19 مارس»، الشهير بـ«طارق البشرى»، مستشار «استفتاء الجنة والنار».
أما السبب الثالث فكان انتظار ما ستسفر عنه دعوة السيسى لتفويضه بوضع حد لإرهاب الإخوان وحلفائهم المحليين والإقليميين ونظامهم الدولى. وقد حسمت استجابة المصريين الكاسحة لهذه الدعوة جدلاً بيزنطياً مجهداً حول الموقف من الإخوان، إذ أثبتت ردود أفعالهم أنهم ليسوا فصيلاً سياسياً، بل جماعة إرهابية سافرة. كما أثبتت أن خيانتهم لمصر ثابتة ودامغة بأكثر من دليل، وأن الدعوة إلى دمجهم وإعادتهم إلى الحياة السياسية تخفى وراءها مصالح «نشطة» وارتباطات «نائمة» كثيرة، وما من سبيل إلى رد هذه الدعوة سوى استحضار ميثاق شرف وطنى كتبه أمل دنقل: «لا تصالح»، فليس أشد عداوة للمصريين من إسرائيل سوى.. جماعة الإخوان.
كانت ثورة 30 يونيو قد اجتاحت «مرتزقة 25 يناير» وألقت بهم على ضفتى ثلاثين مليون مصرى كما يجتاح النهر حشائشه الضارة، فلاذ بعضهم بالصمت مكتفياً بنصيبه من الكعكة، بينما ظل البعض الآخر يقاوم ويتنطع مرتدياً مسوح الليبرالية، رافضاً «إقصاء» هذا الفصيل الإرهابى. وعندما لبّت الملايين دعوة السيسى انتفض دعاة الفتنة والقتل والتحريض وأعلنوا أنها «إعلان حرب» على الإسلام، ودعوة لتصفية الإخوان وإبادتهم، وتصاعدت بذاءاتهم -هم وطابورهم الخامس ونخبتهم المأجورة- ضد الجيش وقائده العام. ولأن أحداً لم يكن ليسمعهم أو يلتفت إليهم وقد انشغلت مصر بـ«عرس التفويض»، ولأن جرابهم كان قد خلا من الأكاذيب.. لجأوا إلى خيار «الانتحار»، على الرغم من أنه لم يحقق لهم أية مكاسب سياسية بعد «علقة الحرس الجمهورى».
لم يكن قد مضى 24 ساعة على طوفان التفويض عندما تقيأ «معتقل رابعة» فيلقاً أُقحِمَ فى مواجهة مع الأمن فى «طريق النصر»، راح ضحيتها بضع عشرات من السذج والمغرر بهم. وعلى الفور بدأ «ذكور المنصة» يولولون كالنساء، مستنجدين بالقريب والغريب لإنقاذهم مما سموه «مذبحة». والتقطت ميليشياتهم الإعلامية والسياسية طرف الخيط، فاستدعت حقاً يراد به باطل هو.. «الدم الحرام».
لا أحد يجادل فى حرمة دم المسلم على أخيه المسلم، لكن المشكلة أن الدماء التى تجرى فى عروق الإخوان تلوثت عبر أكثر من ثمانين عاماً بكل ما هو معادٍ للهوية المصرية، كما أنهم ليسوا «إخواناً» ولا «مسلمين» وفقاً لإمامهم الشهيد. وهم من الجشع والبراجماتية بحيث لا يستنكفون قتل نصفهم ليفوز النصف الآخر بـ«كعكة الحكم»، ولديهم من الدوافع المريضة ما يجعلهم يتوضأون بدماء ضحاياهم ويفترشون جلودهم ليصلوا عليها.. ومع ذلك هم معذورون. فلم يعد لديهم أوراق، ويخوضون آخر معاركهم وهم يدركون أنهم سيخسرونها. أما من عاموا على عومهم ممن انتفضوا دفاعاً عن حرمة الدم، فلا عذر لهم. هؤلاء فى الحقيقة لا تعنيهم دماء، بل يستهدفون «الجيش» و«الشرطة» بالأساس -وهو جزء من الميراث القذر لـ«25 يناير»- بوصفهما راعيين لـ«ثورة 30 يونيو». هؤلاء قفزوا على كل الدماء التى أراقها الإخوان وحلفاؤهم فى سيناء وغيرها من ربوع مصر، وتذكروا فجأة أن الدم حرام. هؤلاء يعرفون أكثر من غيرهم أن الإخوان أصابتهم لوثة منذ فقدوا عرش مصر، وأنهم يتاجرون بدمائهم لاستعادة هذا العرش مثلما تاجروا بالدين للوصول إليه. هؤلاء لم يسألوا أنفسهم: كيف يكون دم المخرب والمحرض وقاطع الطريق ومن يقتل الناس بغير حق.. حراماً؟ ومن الذى يستحق حرمة الدم: صاحب البيت أم اللص؟ الضحية أم دم القاتل؟ المؤمن بحرمات الله وحرمة الوطن أم الذى يخون الاثنين: الله.. والوطن؟