أن يقود شخص سيارته عكس الاتجاه فهذا وارد، وأن يسير مواطن بدراجته النارية على الرصيف المخصص للمارة فهذا أيضاً وارد، لكن أن يصبح السير عكس الاتجاه مسألة مقبولة فهذا شىء غريب، وأن يتحول السير عكس الاتجاه وعكس قوانين الطبيعة والمرور لمشاهد عادية لا تلفت الانتباه فهذا مريب، وأن يحدث كل ما سبق ويزيد تحت مسمع ومرأى ومشهد من أولئك المسئولين عن تطبيق قوانين المرور وقواعده دون أن تهتز لهم شعرة فهذا مرعب.
رعب كبير وخطر داهم يتربصان بالجميع، رجل ستينى تبدو عليه علامات الورع والإيمان، حيث لحية كثيفة وعلامة صلاة كبيرة ومعلقات قرآنية تعكس إيماناً وتقوى يسير بأقصى سرعة عكس اتجاه أحد شوارع مدينة الشروق الهادئة التى لا تستوجب، بعد عشوائية مملكة الميكروباص وبلطجيتها، السير عكس الاتجاه، أشرت له وكأننى أطلب المساعدة، فتح النافذة، فقلت له: «حضرتك ماشى عكس الاتجاه»، فصاح دون تردد: «اتكلى على الله مالكيش دعوة»، بعدها بدقائق كنت فى «مدينتى» حيث النظام والهدوء والالتزام وتقييد سرعة السير بـ60 كم/ الساعة، كبست علىّ سيارة فارهة من الخلف واستخدم سائقها كل أنواع الموبقات من إطلاق العنان لآلة التنبيه والأنوار الصارخة، وما إن أتيحت له فرصة اجتيازى حتى فاقت سرعته الـ100/كم فى المدينة العالمية على أرض مصرية، وفى المدينة ذاتها -التى تنافس فى مظهرها وليس جوهرها أحلى وأجمل مدن أوروبا- السير عكس الاتجاه عادى، ودراجات الـ«دليفرى» النارية التى لا تسير إلا بغاغة من الكلاكسات عادى، والسير عكس الاتجاه عادى جداً، وبسؤال أحد رجال الأمن عن قواعد السير المضروب بها عرض الحائط، قال: «ما هو مش معقول يعنى أوقف مالك علشان ماشى عكس الاتجاه»، وفى اليوم التالى، وعكس الاتجاه أيضاً وصلت سيارة «كريم» يقودها رجل خمسينى متزن، وبعد الصباح الجميل وإزى الصحة نبهته إلى أنه دخل الشارع «عكس الاتجاه» فابتسم ابتسامة ساحرة وقال: «عكس الاتجاه بس أمام البيت بالضبط»، لم أفهم علاقة هذا بذاك، لكن بدا تماماً أن حكاية «عكس الاتجاه» تلك تعشش فى نافوخى وحدى دوناً عن غيرى.
ومن غير أمين شرطة ممسك بدفتر المخالفات ويسير بكل همة ونشاط ليحرر المخالفات للخارجين على قوانين المرور أسأله عن حكم من يقود دراجة نارية على الرصيف؟! حضرة الأمين كان يشرح مشكوراً لشاب نزل لتوه من على الرصيف بدراجته النارية الطريق المختصر ليصل إلى وجهته هرباً من الزحام، ارتبك الأمين لسؤالى، ولولا أن الشاب كان ثالثنا لأنكر أن أحداً خرق القانون فى حضرته، وبكل براءة قال: «لا طبعاً ممنوع، فين ده؟!» وحيث إن القيام بدور عسكرى المرور جنباً إلى جنب مع أدوارى الأخرى فى الحياة أمر مهلك، فقد انسحبت من الجدل السفسطائى وانصرفت لأنظر ورائى وأجد أن سؤالى قد أسعد الأمين والقائد الهمام سعادة بالغة أدت إلى موجة من الضحك الهستيرى.
الهستيريا التى أصابت مصر والمصريين وجعلت شوارعنا ساحة قتال لا تقلق أحداً على ما يبدو، وهى بالمناسبة هستيريا حقيقية تبدو ملامحها المرضية واضحة جلية، فبحسب المراجع الطبية النفسية، فإن الهستيريا هى اضطرابات انفعالية مع خلل فى أعصاب الحس والحركة، وقد تكون نتيجة للهروب من صراع نفسى أو قلق أو موقف مؤلم دون أن يدرك ذلك صاحبها، ويلاحظ أيضاً أن المصاب بالهستيريا يتحدث عن مرضه بهدوء شديد ودون أن يتسبب له ذلك بقلق أو خوف مع كثير من عدم المبالاة بما يفعل وما ينتج عن أفعاله.
أليس هذا بالضبط ما يحدث على مدار اليوم فى شوارعنا؟ يقع حادث مميت على الطريق بسبب رعونة القيادة وجنونها، تبطئ السيارات من سرعتها ليلقى الركاب نظرة على الضحايا ثم يعاودون الطيران على الطريق، تسأل ضابط المرور عن حال الشارع الذى تم إغلاقه تماماً بفعل السيارات الواقفة فى الممنوع فيؤكد لك أن هذا ليس اختصاصه، تلتقط صوراً لسيارات على الطريق دون أرقام لوحات وتسير بسرعات رهيبة وتحملها على مواقع التواصل الاجتماعى فلا تؤرق ضمير أولى الأمر هنا أو تشغل بال المعرضين لخطر الدهس بسيارة مجهولة هناك.
تتساءل عشرات المرات عن سبب غياب الرادارات على الطرق المميتة مثل طريق القاهرة - السويس والإسماعيلية وغيرهما، فيباغتك الصمت الرهيب، تستفسر عن سر السماح لسيارات النقل والمقطورات بتخطى السرعات المقررة والسير فى عرض الطريق وعلى يساره دون ضابط أو رابط، فيصدمك السكون المقيت، تضرب أخماساً فى أسداس حول قوانين المرور التى يناقشها البرلمان ولوائح التنظيم التى تعرضها الوزارة لمعاقبة السيارات المخالفة فى ظل هذا العدد الرهيب من التوك توك غير المرخص أصلاً، وسيارات الأجرة الصغيرة المرخصة ملاكى وتتسم بجنون النسبة الغالبة من قائديها، والدراجات النارية التى يقودها أطفال ودون لوحات أرقام نهاراً جهاراً، لا تصدق ما تراه على الطريق من باصات تنقل الركاب وتفوق سرعاتها الـ110 والـ120 على الطريق دون أن يقول لها أحدهم «تلت التلاتة كام» رغم أنف الحادث البشع الذى وقع على طريق العلمين قبل أسابيع لإحدى أكبر هذه الشركات بسبب السرعة وراح ضحيته شباب فى مقتبل أعمارهم.
أن يكون هناك شخص سفيه بين بضعة ملايين فهذا وارد، وأن يقع حادث بسبب جنون بشرى أحياناً فهذا يحدث، وأن يستهبل أحدهم ويلحق الضرر بنفسه وبالآخرين لأنه لم يجد من يربيه أو يحاسبه فهذا مفهوم، لكن أن تتحول الغالبية إلى أسلحة مميتة على الطرقات تقتل بعضها البعض بينما أولو الأمر فى غفلة شبه تامة، فهذه جريمة! الوطن يسير عكس الاتجاه.