من نحن، بالضبط، وماذا نريد، وإلى أى وجهة نتجه؟ هل نحن دولة حسمت أمرها، واتسقت مع ما وثّقته دستورياً، من كونها دولة «مدنية»، أو هى دولة «متسربلة»، وغارقة فى السلفية حتى أذنيها، وبالتالى ينطبق عليها «أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب» طوال الوقت، تنطلق إشارات، ترسخ، ليس البقاء فى تلك المساحات الرمادية، بل ترجيح استخدام مفتاح التفسير الدينى، لكل شىء وأى شىء، حتى لو لم يكن الأمر محتاجاً.. بعد معركة أكشاك الفتوى، التى صورت الأمر، كأنه لم يعد ينقص الصورة غير جماعة «أمر بالمعروف ونهى عن المنكر»، لنصير دولة دينية بامتياز، ثم التراجع أو فتور حماس الدولة لهذه الأكشاك، وإعلانها العزم عن رفعها، بعدها كان المنشور الذى وزعته وزارة السياحة على الفنادق لإلزامها بقبول المايوه الشرعى فى حمامات السباحة، ثم سحب المنشور وتراجع الوزارة عنه.. ما زلنا نصر على العيش فى «المنطقة الرمادية»، لو جاز أنها تسمح بإقامة حياة.. حتى ما نتصور أنه قد تم حسم أمره، نكتشف أنه «جمرة» تحمل الشرر.. فضيلة الشيخ أحمد كريمة صرح مؤخراً، بما يفيد بحرمانية عرض التماثيل فى المتاحف، مضيفاً أن «النبّاشين»، أى الذين يفتشون فى القبور، أى ينبشونها بحثاً عن مومياوات، هم «ملعونون»، ثم اختتم بتساؤل: ترضاها لجدك؟! هذا باختصار ما تفضل علينا به فضيلة الشيخ الكريم. من أين نبدأ الكلام؟ طيب إذا ما كان عرض التماثيل فى المتاحف حرام، ففيم الاختلاف عن الذين رأوها حراماً، فنسفوا هذا الحرام فى بلاد أخرى، واتهمناهم بأنهم إرهابيون؟ ولِم كل هذا العناء والجرى وراء السياحة؟ وإذا كان التفتيش عن الآثار واكتشاف المومياوات ودراستها، هو جزء من علم اسمه علم المصريات، وهو العلم الوحيد الذى اشتق اسمه من اسم بلد، وما دام السؤال الاستنكارى «ترضاها لجدك»، هو ملخص الموقف، فما معنى كل هذا السعى نحو استرجاع «السياحة»، التى لم تعد أصلاً موجودة، وكيف يمكن أن تحاكم مجنوناً «لا يرضاها» لجده، فقرر أن يصحح الوضع ويحطم هذه التماثيل الحرام؟ أو ينسف المعابد، إما لأنها حرام، وإما لأنها تسىء «لجده»؟
من نحن فعلاً.. وماذا نريد من الناس وأى قناعة تحكمنا؟ وما هذه الدولة التى تقترض لتنشئ متحفاً «للتماثيل»، والمومياوات، التى أتى بها وفق تصريحات فضيلة الشيخ «نباشون»، ثم تسمح نفس الدولة بمن يصرح علناً بحرمانية ولعن الموضوع برمته؟
دعك من التناقض، وليكن السؤال أكثر مباشرة.. دولة تضع أكشاكاً للفتوى فى محطات المواصلات، على اعتبار أن الناس محتاجة الفتوى الدينية مع كل كل نفس، دولة مشغولة بالمايوه الشرعى، وإلزام الفنادق السياحية أو التزامها، دولة تسمح علناً بتحريم «التعامل مع تاريخها» علمياً، وليس مجرد فكرة السياحة.. ماذا ينقص هذه الدولة كى نكون دولة دينية؟
وإذا كان فضيلة الشيخ قد تساءل مستنكراً: «أترضاها لجدك»؟
فلعل الدولة أكرمها الله بالبصيرة، تنورنا وتستشرف ما عليه أن يفعل «هذا» الذى لن يرضاها لجده..
وكيف سوف يتصرف لو أصر أبوه على استمرار عرض تمثال جده!!
أرجوكم كفاية.. كفاية التباسات.. أريحونا، وأريحوا الذين لا يرضونها لجدهم، سموا الأمور بأسمائها.
هل هذه سمات دولة مدنية؟