أصدرت مطرانية المنيا منذ أيام بياناً، وصدّرته بعنوان ملغم يستقبلك فى الصدارة قبل الدخول إلى محتوى يثير عاصفة من التساؤلات، «فى ذكرى فض اعتصام رابعة.. غلق كنيسة بالمنيا». لا تنتظر خلال مطالعة فحوى البيان تفسيراً سهلاً، عن دلالة المقطع الأول من العنوان، وسبب تصديره فى سطور تتحدث كلها عن المقطع الثانى والهموم المتعلقة به، خاصة أن السطر الأول الذى يفصح عن سبب إصدار البيان يذكر نصاً: «تعليقاً على ما نُشر على بعض مواقع التواصل الاجتماعى، بخصوص استمرار الأجهزة الأمنية فى غلق كنيسة قبطية بقرية كدوان بمركز المنيا». قد تصيبك الدهشة حول إقحام «ذكرى فض اعتصام رابعة»، أو تبذل جهداً للقفز على العديد من الاستنتاجات ووسائل الربط لتصل إلى مقصد «الاعتداء بالحرق والتدمير على عشرات الكنائس والمنشآت المسيحية بمحافظة المنيا، بعد ساعات من عملية الفض التى تمت بالقاهرة».
ونحن ما زلنا فى مربع عدم الارتياح بصدور هذا البيان، لن يكون العنوان هو المأخذ الوحيد الذى من الممكن الوقوف عنده، فمجمل صياغة البيان ربما يجدها البعض أقرب لمنشورات «مواقع التواصل الاجتماعى»، التى خرجت المطرانية لتتواصل معها بالرد كما ذكرت هى ذلك، لذلك أن يجد هذا المنشور طريقه ليصير بياناً باسم المطرانية، يمكن اعتباره خصماً من مقام المطرانية بصورة أو بأخرى، وقدرها الحقيقى أعلى من هذا التناول بكثير. والصياغات التى قد تفضى إلى عدم الارتياح عديدة، فبعد استعراض لبعض جوانب المشكلة تأتى عبارة «ذكرنا ما حدث، ولعل ما ذكرنا يثلج صدور أولئك الذين يدعون أن الدولة تدلل الأقباط وتحابيهم»، وبعدها «الأقباط مصريون والمنيا محافظة مصرية»، والتوقيع «المنيا فى ذكرى فض اعتصام رابعة/ أغسطس 2017م». وللمرة الثانية فى بيان لا يتجاوز الصفحة بدأ بفض رابعة وينتهى بها!
يمكن تقديم نصيحة للبعض، بالاكتفاء بهذا القدر من قراءة المقال «المشهد»، فما سبق منه يعطى قدرة التعليق على بيان «مطرانية المنيا»، وبه الكثير من الوجاهة ومسارات الرد التى يمكن طرحها، لضمان ملء مساحات الحوار المتوقعة. ولهؤلاء المكتفين أعطى لهم ميزة إضافية للمغادرة، برسالة طمأنينة أن الأجهزة المعنية والمسئولين فى أغلبهم يغادرون عند هذه المحطة، أو بمعنى آخر يقفون داخل هذا المربع مكتفين بهذا القدر إلا قليلاً جداً منهم. ومع آخرين ممن يرغبون فى السباحة بعيداً تجاه المياه العميقة، أستكمل معهم معاينة بعض «ليس كل» من نُذُر الخطر، حيث جاءت إشارات عديدة منه داخل متن البيان.
فى أكثر من لقاء مع شخصيات كنسية، على اختلاف مراتبهم وأماكن خدمتهم، دارت بيننا حوارات بها قدر عال من المكاشفة وبث الشجون والهموم، المتكرر فيها دونما اتفاق، أن رجال الدين المسيحى الرسميين أصحاب مناصب الخدمة فى كنائس مصر، يقعون اليوم تحت ضغط هائل من رعية كل كنيسة أو محافظة، وسطور بيان المنيا وسبب إصداره وصياغته، أجزم أنها كُتبت تحت هذا الضغط، الذى لم ينتبه له الرسميون من أجهزة الدولة حتى اللحظة، بالرغم كل ما مررنا به من أحداث منذ العام 2011م وحتى اليوم. عنوان الضغط أن رجال الكنيسة عاقلون ومتسامحون بأكثر مما يجب، أمام تعنت مجتمعى ورسمى يضرب مناطق وأزمات بعينها، فتتداعى له مناطق أخرى بالمزيد من الاحتقان المتراكم. أوجه التعنت بأكثر مما تحصى، منها الصغير العابر، وبعضها راسخ رسوخ الجبل الذى يصعب عبوره، وفى كليهما يبذل رجال الكنيسة جهداً خيالياً غير منظور من أجل التبرير والاحتواء وتقديم المساعدة. لكن يظل مأزق التضييق فى أماكن ودور العبادة قادراً على أن يلهب أعصاب الجميع، ومنطقية طرحه مسيحياً تقابلها عبثية مقابلة من أوساط اجتماعية تضع العصا فى العجلة، وتبدو حينها أجهزة الدولة فى ارتباكها وتلعثمها «الإجرائى»، وكأنها كانت تنتظر من يتقدم لإشهار تلك العصا!
الذى لا يريد الكثيرون رؤيته، أن تلك القضية تبدلت وتطورت معادلاتها تماماً، مثلها مثل الكثير مما تبدل حولنا، فالمسيحيون اليوم تحت وطأة سؤال المواطنة الكاملة، أصبحت الإجابات المنقوصة لا تفى بالغرض لمن يراهن على تمريرها من أجهزة الدولة، ويعلقون اليوم الاتهام مباشرة فى عنق التجمعات السلفية التى تظهر فى أزمات الكنائس وأماكن الصلاة، من دون أن يعى هؤلاء السلفيون أن تلك إجابة قديمة أصبحت غير قابلة للتداول بعملة المشهد الوطنى الجديد. بيان المنيا ذكر «15 مكاناً» مغلقاً بأمر الأمن، و«70 قرية» بلا أماكن للصلاة رغم وجود طلبات رسمية حبيسة الأدراج. الأمن الوطنى القادر أن يكون فاعلاً فى تلك القضية لم يتقدم لتفكيك تلك المعضلة مع مطرانية المنيا، حيث كان يمكن الخروج بالعديد من الحلول الجزئية «على الأقل» فلا يستدعى إصدار «بيان»، تدق فيه المطرانية جرس الإنذار والتنبيه بأن «المنيا محافظة مصرية». وربما أنحاز فى هذا السياق إلى ضرورة جاهزية حلول واقعية شاملة، لا تكون بملامح الماضى التى عبرها الزمن، بل يجب أن يكون عنوانها «أن الدولة تريد ذلك»، وفرض هذا المستجد على جميع الأطراف بقوة القانون وفعالية الأجهزة المعنية. لأنه من دون هذا النسق نظل وكأننا نحرث فى بحر، لن يزيد الحفر فيه إلا مياهاً لن يشرب منها أحد.
بيان المنيا أثنى على توجهات وتوجيهات الرئيس «رأس الدولة»، فيما نصه: «تحقيق العدل والمساواة وتوطين السلم والاستقرار فى أركان البلاد»، لكن يظل الاتهام بالقصور معلقاً على إرادة بقية جسد الدولة، هذا الجسد المترهل المتباطئ فى تلك القضية، قد يتسبب بعزوفه عن إدراك حجم المتغيرات، فى صناعة مشهد كارثى، ينفلت من أيدى الجميع ويلقى كالعادة تحت أقدامنا، وعلى وقع الدهشة والمفاجأة التى لا محل لها حينئذ، سنكون مطالبين بالعبور كـ«دولة» و«مجتمع» على حقل من الألغام.