أثارت تونس جدلاً واسعاً على خلفية تأييد تقاسم الميراث بين الرجل والمرأة، وزواج المسلمة من غير المسلم، وقد ساق مفتى تونس، عثمان بطيخ، فى حواره مع جريدة «الوطن»، الأحد الماضى، تبريرات من نوعية أن المقترح يراعى المصلحة والتغيرات الاجتماعية، وكلامه هذا ما هو إلا مشاغبات وتبريرات غثة وجوفاء، سبق أن تولى كبرها آخرون كزعيم الحركة الإسلامية فى السودان، الدكتور حسن الترابى، والباحث الدكتور رضوان السيد، وبهذا الكلام السمج والإسفاف الفكرى خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهم فى هذا ليسوا مبتدعين وإنما ساروا على خطى عابد الجابرى، وحسن حنفى، وغالى شكرى وغيرهم.
لكن هل يظل الاكتفاء بالرفض هو شعار الجهة المقابلة؟ بمعنى هل يمكن لعلمائنا الأجلاء فى الأزهر الشريف أن يصدروا تشريعات تحافظ على النص من ناحية وتراعى التطورات الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى؟ فمثلاً لو أن شخصاً مات وترك 10 بنات فإن البنات لا يأخذن الميراث كاملاً، بل يذهب جزء من الميراث لأقارب المتوفى، لكنه لو مات وترك ولداً واحداً فإنه يأخذ الميراث كله، ولو أن رجلاً توفى وترك ولداً معروفاً عنه ضياع الأموال وتبذيرها فى المخدرات والمحرمات والمسكرات، وترك خمساً من بناته أرامل، كل أرملة تعول عدداً من الأطفال، تنفق على تعليمهم وإطعامهم، فإن الشرع يعطى الولد المبذر ضعف أخواته الأرامل العائلات، هذا هو الشرع «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن»، ولا يجوز الاعتراض أو الامتعاض أو الاستدراك على كلام الله، فالرجل هو القائم بالإنفاق، لكن إذا تغير الواقع وزال السبب الذى من أجله يأخذ الرجل ضعف المرأة، وصارت نسبة الأسر المصرية التى يعولها نساء أكثر من 30%، ألا تلزم هذه التغيرات نظرة جديدة من المجامع الفقهية المعتبرة لتحل هذا الإشكال، على غرار مسألة الوصية التى لم تكن معتمدة عن الفقهاء، فلما رأى المشرع المصرى تغييرات اجتماعية جعل الوصية واجبة، وحدث ذلك فى مسألة الطلاق، حيث أخذ المشرع المصرى بكلام ابن تيمية حين رأى فيه نجاة للأسر المصرية من الانهيار حتى وإن كان رأيه شاذاً؟ فنحن فى حاجة إلى عملية جراحية دقيقة لا تعطل النص، ولا تنحيه، وتراعى المقرر من أنه لا اجتهاد فى النصوص قطعية الثبوت، وفى نفس الوقت تراعى التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة.
أما أن تقعد الهيئات المتخصصة، وعلى رأسها هيئة كبار العلماء بالأزهر، وتغط فى سبات عميق، فإن صدرت فتوى مخالفة تحركوا لرفضها والسلام، بدلاً من ملاحقة كل مسألة ببيان شافٍ، وإعادة النظر فى الأحكام بما يتفق مع الواقع ولا يتنافى مع النص، فهذا يفتح الباب لسخافات فى الدين، هم يتحملون بعض أوزارها.
إن التعامل مع المقترح التونسى بطريقة الصياح لن يمنع التوانسة من اتخاذ خطوات فعلية لتفعيل الفكرة، وهذا سيفتح الباب لتكرارها على مستوى الدول والأسر.
والحل -من وجهة نظرى- أن ندرك أن أزمتنا ليست فى الإخلاص، بل فى المنهج وانعكاس سلامته على مستقبلنا، وهذا يكون بغربلة الأفكار وانتخاب العلوم والمعارف، وصناعة ذهنيات مرتبة، وعقول فارقة، تكشف عن سنن الله فى كونه، وتدمن النظر فى النصوص بصورة تلائم المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا هو الفقه الأكبر، والفريضة الغائبة.
لكن التوقف عند كل قديم وموروث بعقل سلفى دون تجديد واجتهاد، فيه عقوق للنص نفسه، وكما قال زكى نجيب محمود: «سلطان الماضى على الحاضر بمثابة السيطرة يفرضها الأموات على الأحياء».
وإذا كان القول بتعطيل النص الثابت -بدعوى الاجتهاد والمصلحة -نوعاً من الهزل والسخف ومروقاً عن الجادة، فإن التعامل مع الثوابت بتحجر، وابتلاع كل ما انتفخت به كتب التراث، وتعطيل نعمة النظر فى النص، وعزل النصوص عن واقع المجتمع وتطوره يشل حركة الإسلام شللاً كاملاً.
ولا فرق بين تعطيل النص القرآنى وتنحيته بدعوى التجديد، وبين تقديمه من فوق المنابر بصورة تطفئ نوره، وتدفن كنوزه، وتقتل فيه الحياة، وترسله نصاً تصادمياً غاضباً منقطع العلاقة بواقعه كأنه جثة محنطة.