سمحت لنفسى أن أقتبس هذا العنوان على غرار عنوان قصيدة الشاعر الجميل جمال بخيت «دين أبوهم اسمه إيه؟»، وكان يتساءل فيها عن الظلم والإجحاف الذى لاقاه الشعب المصرى من حكام على طول الزمان.. وأنا أتساءل هذه المرة عن المعايير الخاصة بالديمقراطية الأمريكانى فى ظل الحكام الأمريكان الذين يعيثون فى شعوب الأرض فساداً وخراباً وكيف تقاس هذه المعايير.. هل تقاس بالكيلومتر أم بالكيلوجرام أم باللتر، ويمكن أن تصل إلى الكيلة والأردب و«الويبة».. هل تقاس على كيفية قيام دولة اسمها أمريكا فى القارة التعيسة على جثث وأشلاء سكانها الأصليين الذين أطلقوا علىهم الهنود الحمر؟ وهل يجرؤ كتّاب التاريخ لديهم أن يقولوا إن شعباً كان يسكن قارتنا الغراء وتمت إبادته عن آخره فى مجازر تضرب مجازر الدواعش فى السوق؟ هل تقاس هذه المعايير على ما فعله بوش الصغير عندما قرر أن «شارون» رجل سلام لأنه ديمقراطى وصدام إرهابى لأنه غير ديمقراطى ووعد العرب والعالم بأن العراق، بإذن الأمريكان وبأياديهم البيضاء، سوف يكون نموذجاً ديمقراطياً يسيل لعاب جيرانه من العرب عليه وسوف يذهبون ليقبلوا أقدام بوش راجين منه تطبيق المعايير الديمقراطية زىّ العراق تمام فى دولهم؟
والحقيقة أن المعايير فى العراق ما زالت تدهشنا منذ أن رأينا سجن «أبوغريب» والصور المشرفة جداً والمبهرة جداً للمعايير الديمقراطية والإنسانية التى ما زالت لا تفارق عيوننا، وراحت العراق فداء للمعايير، وانهارت الدولة التى شهدت حضارة إنسانية راقية منذ خمسة آلاف عام، وقُتل من أهلها ما يقرب من مليونَى عراقى، وما زالت منذ أيام «بوش» وإلى يومنا هذا تعانى وتحاول الآن أن تلملم أراضيها وشعبها وتحاول استعادة دولة كانت تُدعى العراق.
هل هى معايير الأخ أوباما الذى قرر تطبيق المعايير فى الدول العربية «شروة واحدة» وبشّرتنا الست كونداليزا فى 2005 بقرب قدوم الربيع العربى «أبومعايير واحنا نايمين فى العسل»، ثم قالت: أبشّركم بالشرق الأوسط الجديد والفوضى الهدامة واحنا تايهين عن المخطط حتى بدأ عام تطبيق المعايير، وتوالت الانفجارات الديمقراطية والحرائق الإنسانية بداية بتونس ثم مصر ثم ليبيا ثم اليمن وسوريا.. وتشهد سوريا وضحاياها الذين يقتربون من المليون ومهاجروها الذين تشتتوا فى أنحاء الكرة الأرضية والذين ماتوا غرقى مصطحبين أطفالهم الرضع على تحقيق المعايير الديمقراطية، وكذلك تشهد ليبيا واليمن، واكتشفنا أنه من أفضل الجماعات التى تطبق المعايير الديمقراطية الأمريكانى جماعة الإخوان وطالبان والقاعدة والدواعش والنصرة وبيت المقدس وحسم وأبومصعب وأبوبكر البغدادى... وإلى آخر آباء الإرهاب.
واكتشفنا أيضاً أنه من لوازم المعايير أن يكون سلاح هؤلاء من عند الأمريكان، وأن وسائل تواصلهم الحديثة من عند الأمريكان، وأن الأوامر تأتى بالمعايير من أمريكا إلى البؤر التى زرعوها فى كل هذه الدول، ومنها مصر طبعاً، من عند الأمريكان من خلال ما يسمى الجمعيات الأهلية، وجمعيات «حقوق الإنسان»، والأخرى غير الهادفة للربح وأكاديميات التغيير وأكاديميات المعايير وجامعة «الصرب» التى جندت شباب الدول العربية ودربتهم على إسقاط دولهم طبقاً للمعايير.. وجاء الأمريكان بالرئيس المنتخب انتخاباً ديمقراطياً بنفس المعايير «مرسى العياط»، وأصبح المقر الرئيسى للإخوان قبلة الأمريكان من كلينتون إلى كارتر إلى سفيرة جهنم الست باترسون مهندسة صعود الإخوان وكله بالمعايير، وهكذا الديمقراطية وإلا فلا. وكان عاماً أسود على مصر والمصريين، ولكن لأن مصر دائماً مختلفة وشعبها غير الشعوب كانت مفاجأة 30 يونيو المدوية، وأصاب الفزع الخواجة أوباما والست هيلارى التى كانت على وشك تسليم سيناء إلى إسرائيل وفقاً للمعايير الديمقراطية، وحاولت هى وهو ومعهما «باترسون» محاولات مضنية لإبقاء الإخوان فى مصر بكل الطرق الممكنة حتى التهديد بالحرب وبقطع المعونة والعلاقات ومنع الطائرات والسلاح وقطع الغيار، وهللوا فى العالم كله عن الانقلاب العسكرى على الرئيس المقبل من جوف الصناديق رغم أنهم شاهدوا عبر الشاشات الثلاثين مليون مصرى فى شوارع مصر يطالبون بإسقاط حكم المرشد، وحتى فض اعتصام رابعة صوروه فى إعلامهم على أنه مجزرة قامت بها الشرطة المصرية المفترية على مدنيين غلابة ديمقراطيين عزل من السلاح والرصاص والسكاكين، وهتفوا بأن مصر تقتل المعارضة المسكينة التى تنادى بالرئيس المنتخب وفق المعايير.
وأطلقت على دواعش سيناء الذين عششوا وأفرخوا فى أرض مصر لقب «المتمردين» كما أطلقت على دواعش سوريا ألقاب المعارضة المسلحة والمعارضة المعتدلة.
وعادة يوزع الأمريكان هذه الألقاب اللطيفة على كل من يطبق المعايير ويسمع الكلام، وسقطت على أعتاب مصر أكذوبة «أمريكا» وديمقراطية أمريكا وكل الشعارات الزائفة عن الإصلاح السياسى والعدالة الاجتماعية وإطلاق الحريات وحقوق الإنسان.
ونفسى ومنى عينى أشوف تطبيق المعايير الإنسانية على الأمريكان وعلى سجن جوانتانامو الذى ما زالت صور مساجينه لا تفارق أعيننا: أعضاء طالبان -وهى صناعة أمريكية- وهم يساقون مكبلين بالسلاسل مثل عبيد القرن السابع عشر، ثم وهم محبوسون فى أقفاص من الحديد مثل الحيوانات المفترسة، ثم وهم يعذَّبون بالطرق المتخلفة التى لا تعرف عن المعايير أى شىء. وإذا طبقت أمريكا المعايير على شرطتها الغراء وجدت أنها تقتل كل عام مئات من الأفارقة الأمريكان مثلما تقتل الأرانب بلا ذنب. وإذا أحصينا أعداد المسحولين والمسجونين من المتظاهرين حسب المعايير فى أمريكا لوجدنا العجب.. وأخيراً، وبعد هذا السجل الحافل للمعايير الديمقراطية الأمريكانى، ودون سبب واضح، ادعت إدارة الأمريكان أن المعايير الديمقراطية فى مصر «مش اللى هى»، وأن حقوق الإنسان «مغلوشة» وغير واضحة وأن الجمعيات إياها اتقفلت على صباع أوباما وذراع ترامب ولا بد أن تفتح أبوابها مرة أخرى وإلا... ومنعت جزءاً من معونة التسليح قدره 295 مليون دولار، مع زيادة المعونة لإسرائيل والأردن وتونس، وكله بالمعايير.
كنت أتخيل زمان أن دولة مثل أمريكا عندما تكذب يكون الكذب «ذكى ومتكلف ويخيل علينا ونصدقه»، واكتشفت أنه كذب أهبل، وأنهم كأفراد عندما يبتعدون عن المناصب يقولون كل البلاوى بنفسهم، ومع ذلك ما زال الكذب الأمريكانى شغال «هو بغباوته».. وطظ فى معونة الأمريكان وفى معايير الأمريكان التى لا أعرفها حتى يومنا هذا، ولذلك سأظل أسأل: «هى معايير ديمقراطية أبوهم اسمها إيه»؟