فى الموجز الصحفى اليومى لوزارة الخارجية الأمريكية، سأل أحد الصحفيين المتحدثة باسم الوزارة «هيذر نويرت»، عن تقرير لصحيفة «واشنطن بوست» أفاد بأن الدافع الحقيقى لتجميد جزء من المعونة إلى مصر؛ هو بسبب تعاملها مع كوريا الشمالية، رغم حديث واشنطن عن أن التجميد بسبب أوضاع حقوق الإنسان. تفكيك هذا التساؤل قبل الإجابة عنه من «الخارجية»، التى سنوردها بعد قليل، فالإشارة إلى طرحه أمريكياً بالأساس يفيد فى بعض النقاط، أهمها أن قراراً سياسياً من هذا النوع، ليس بالضرورة أن يكون المعلن منه هو الحقيقة وراء إصداره. وثانياً أن ذريعة «حقوق الإنسان» الفضفاضة غير متماسكة الملامح، يمكن استدعاؤها لصبغ قرار ما بقدر من الأخلاقية، ولوضع الطرف الآخر عادة فى موقع الدفاع عن النفس، خصوصاً فى مقابل مطاطية تلك الحقوق وتأويلها، فيُمكن وصم أى إجراء من أى نوع، كونه انتهاكاً لها مع تجاهل سياقه، فى الوقت ذاته يمكن العبور أمام آخر فى حال توافرت له الذرائع المتماسكة.
رد المتحدثة لم ينفِ، بل وضع على المشهد مساحة من الظل، قائلة: «ما أستطيع قوله عن هذا، هو أننا تحدّثنا كثيراً عن قلقنا بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ووضعنا قائمة بالنقاط التى تُقلقنا بشأن مصر. أما فى ما يتعلق بكوريا الشمالية فنحن نواصل العمل مع الحلفاء والشركاء، ومصر واحدة منهم». وفى اقتراب أكثر أوضحت بالقول: «أجرينا محادثات مع مصر ودول أخرى كثيرة، عن الحاجة إلى عزل كوريا الشمالية، لأننا ندرك أن الدول التى لديها أعمال مع كوريا الشمالية تسمح بوصول المال، إلى البرامج الصاروخية والنووية غير الشرعية لكوريا الشمالية. وهذا يُشكل مصدر قلق كبير لنا وللعالم، ولدينا علاقة قوية مع مصر ومناطق كثيرة للتعاون المشترك، لكن كوريا الشمالية بشكل عام تُمثل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة».
يكفى هذا من حديث «هيذر نويرت»، ليؤكد حضور قضية كوريا الشمالية فى مشهد حجب جزء من المعونة مؤقتاً، وداخل المساحة ذاتها من الظل هناك دافع ربما معلوم أمريكياً، لذلك لم يكن هناك داعٍ للتساؤل بشأنه، يتعلق برغبة الخارجية الأمريكية لفرملة الاندفاع الرئاسى الأمريكى على طريق تطوير العلاقات مع النظام المصرى. وليس أعمق تأثيراً فى الداخل الأمريكى من إثارة ملف حقوق الإنسان، وقانون الجمعيات الأهلية المصرى ومساحة حركة المجتمع المدنى، فضلاً عن كوريا الشمالية حالياً، ليشكلوا جميعهم قائمة مطالب «مشروعة» وقابلة للتداول داخل الأروقة، ويصعب الطعن عليها من قِبَل البيت الأبيض، خصوصاً إذا ما اقترنت بتثمين الشراكة مع مصر وعدم انتهاج لهجة عدائية معها بأى صورة. لذلك أسرعت الخارجية الأمريكية بإلقاء الكرة فى ملعب الكونجرس، وفيه من هو قادر على إثارة قدر من اللغط، حول أهمية هذا القرار بالنسبة للولايات المتحدة، مع تأكيد اعتبار مصر شريكاً استراتيجياً رئيسياً للولايات المتحدة «توصيف الخارجية» الوارد بالقرار. الجدير بالذكر أنه بموجب هذا القرار؛ سيُودع مبلغ 195 مليون دولار فى حساب بنكى يُتاح الوصول إليه فى وقت لاحق، فى الوقت الذى يصل فيه إلى مصر مليار دولار عن السنة المالية 2017م. وهذا يُعد من وجهة النظر الأمريكية، إجراءً شرطياً يمكن التراجع عنه فى حال الوفاء «مصرياً» بتلك التحفظات الواردة، وهذا يضع البيت الأبيض هو الآخر فى محل هذا الانتظار الشرطى.
هذا تقريباً ملخص للمشهد الأمريكى من الداخل، من دون تهويل أو تهوين، والأمر فعلياً لا يحتاج إلى كليهما، بل يلزمه قدر أكبر من التعقّل وقراءة ما بين سطوره، فالصراخ الإعلامى ونبرة الهجوم المضاد الاعتيادى الذى تسلل هذه المرة إلى بيان الخارجية المصرية، أصبح وكأنه يضلل الرؤية عمداً، لدرجة انزلاق البعض فى استدعاء تهويمات التآمر الأمريكى، «للمفارقة» قبل أسابيع من الموعد المقرّر لاستئناف مناورات «النجم الساطع» العسكرية، حيث تعكس تلك الأخيرة وزناً متقدماً فى الشراكة الاستراتيجية المشار إليها، وربما حسن إدارة تلك الشراكة من الجانب المصرى به مساحة من القصور تستلزم العمل على تطويرها، قد يكون أولها الفهم الصحيح لأوزان مكونات صناعة السياسات الأمريكية الخارجية. على سبيل المثال منظمات العمل المدنى غير الحكومى تحتل مساحة، لا يمكن للرئاسة الأمريكية تجاوزها إلا بضمان صمتها المحصّن بقدر معقول من الرضا، وهذا ما دفع «الخارجية» لإثارة هذا الملف حتى تصيغ أوراقاً للضغط فى خطوتها. الصحفى الأمريكى لأنه يدرك تماماً تلك المعادلات لم يكن يدافع عن الملف الحقوقى المصرى، وهو يوجه سؤالاً مباشراً لمتحدثة «الخارجية» بأنها ترفع الملف الزائف، من أجل تمرير سبب آخر هو علاقة مصر بكوريا الشمالية. وهكذا يظل هذا الملف سيفاً يسهل استدعاؤه فى حال الرغبة فى ممارسة ضغط ما على الدولة المصرية، ولحساسية الملف وربطه بمنظمات العمل الأهلى يلزمه تعاطٍ مصرى لا علاقة له بالصراخ والنفى الأصم، بقدر ما يحتاج إلى قدرة تعامل احترافى هادئ النبرة «جداً». بهدف نزع هذا السيف من اليد الأمريكية التى سنظل أحرص على التعامل معها، وهذا نسق لا علاقة له بالتآمر الذى يظل إطلاقه «عمال على بطال»، يعظّم من الفاتورة التى نلتف حولها ونرفض سدادها، وهذه فاتورة ترتبط بالعمل على تفكيك الذريعة بواسطة مصريين «غير حكوميين» يمتلكون الخبرة فى هذا المجال، وليس بالضرورة ولا «مطلوباً» أن يكون بها شبهة انصياع مصرى لمطالب بعينها، فالملف فى الأساس له طابع العموميات، لكن المرجّح فيه هو قدر الشفافية والجدية.
ولأننا اعتدنا مواجهة قضية «المساعدات» دوماً بأصوات نشاز، غابت عنا أصوات تردّدت داخل الكونجرس فى مناقشات «جادة» حول جدواها بالنسبة للمصلحة الأمريكية، طرحت تساؤلات عن الأوزان الإقليمية وقدرات التأثير فى مشكلات المنطقة، وهذا مما كان يلزمنا الإنصات له بتركيز يتجاوز «وصلة» الصراخ السنوية. وفى هذا نستكمل الأسبوع المقبل بمشيئة الله.