حينما تتغلب المشاعر الجياشة تضيع الحقائق، تلك المقولة تحذرنا من طغيان العواطف، التى هى فى الأصل متقلبة، حين يتطلب الأمر التعمق فى الحقائق والتبصر فى النتائج بروية وحكمة، وأبدأ بالقول إن هذا التحذير موجه لشخصى الضعيف قبل أى أحد آخر، لا سيما أننا جميعاً أو غالبيتنا العظمى تتعامل مع الشأن الأمريكى بقدر من الانفعال يفوق أحياناً القدر المناسب للحدث، وما حدث من تعليقات وتحليلات بشأن إلغاء جزء من المساعدات الأمريكية وتأجيل صرف جزء آخر يُظهر غلبة الطابع الانفعالى، وفى الآن نفسه غياب المعلومات المتعلقة بأسباب هذا الموقف الأمريكى الذى بدا للجميع غريباً ويتصادم مع العلاقة الخاصة بين الرئيسين السيسى وترامب، وتأكيدات الأخير على تطوير ودفع العلاقات الثنائية إلى الأمام.
وبداية فمن حقنا كمصريين أن نعبر عن غضبنا لكل ما يسىء إلى الصورة العامة لبلادنا سواء بشأن أوضاع حقوق الإنسان أو أى شىء آخر، لكن بشرط ألا يدفعنا الغضب إلى التعالى عن تفهم الأسباب إلى أدت إلى هذا الموقف، ومن ثم عدم التعامل معه فى العمق وصولاً إلى حل مناسب يرضى توقعاتنا، وثانياً فإن قرار المساعدات الأمريكية للدول الأخرى يحكمه قانون يعد جزءاً من خطة الإنفاق الحكومى، التى يقرها الكونجرس بعد مفاوضات شاقة وتفاهمات بين الإدارة الأمريكية واللجان المتخصصة، وأبرزها لجنة الموازنة واللجنة العسكرية، وفى الشق الخاص بالمساعدات الخارجية يتم تحديد كيفية الصرف وهو أمر يخضع لموافقة الكونجرس فى بعض الحالات ومنها الحالة المصرية.
كما يخضع لإشراف وزارة الخزانة من أجل التدقيق بأن الصرف تم وفقاً للقواعد المحاسبية المعمول بها.
ووفقاً لخطة الإنفاق الحكومى للعام 2017، التى صدق عليها الرئيس ترامب فى مايو الماضى، تقرر منح مصر مساعدات عسكرية بقيمة 1.3 مليار دولار، منها 15% يتم حجبها ولا تُصرف إلا بعد أن تقرر الإدارة الأمريكية أمام الكونجرس بأن مصر حققت تقدماً فى مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، و112 مليون دولار مساعدات اقتصادية تخصص لدعم برامج التنمية فى سيناء بقيمة 35 مليون دولار، ومبلغ مماثل لدعم التعليم العالى يخصص ثلثه لمنح للطلاب المصريين غير القادرين، أما المخصصات المتعلقة بدعم الموازنة المصرية فلا بد أن يسبقها إقرار من الخارجية الأمريكية بأن مصر تلتزم بمسار الإصلاح الاقتصادى، وربما كانت هذه المخصصات الأيسر فى صرفها، نظراً للالتزام المصرى بإصلاحات شاملة وعميقة وفقاً للاتفاق مع صندوق النقد الدولى.
ومعروف أنه منذ ولاية الرئيس السابق أوباما فقد حدث تغيير فى طبيعة المساعدات العسكرية، فقد تم إلغاء ميزة الصرف المبكر، التى كانت تتيح لمصر الحصول على أسلحة حديثة غالية الثمن على أن يُخصم ثمنها من مخصصات المساعدات فى السنوات المقبلة، وتم أيضاً تحديد القسم الأكبر من هذه المساعدات لتأمين الحدود المصرية ومكافحة الإرهاب والتدريب المشترك، وهى مخصصات لا تخضع لتقييم التقدم فى مجال حقوق الإنسان، وترتبط بالمصالح الأمنية الأمريكية حسب المعايير التى يتوافق عليها الكونجرس مع البيت الأبيض، ووفقاً لقانون المساعدات، فإن وزير الخارجية الأمريكية له سلطة تأجيل صرف نسبة 15% وهى توازى 195 مليون دولار لوقت آخر، على أن توضع فى حساب خاص، وأن يتم الصرف بعد إقرار الخارجية الأمريكية أمام الكونجرس بأنه تحقق تقدم فى مجال التطور الديمقراطى والحريات.
بهذا الشكل العام ليس من الصعوبة بمكان القول إن هذه المساعدات مشروطة بخطوات سياسية واقتصادية يراها الكونجرس ملائمة أو مرضية، وإن صرفها يخضع لتفاهمات بين الإدارة والكونجرس، والثابت أن الحالة الراهنة بين الرئيس ترامب والكونجرس ليست جيدة ومليئة بالصعوبات والتحديات للطرفين، والسؤال المُلح هنا هل تستطيع مصر أن تدفع الكونجرس أن يعيد النظر فى هذه الشروط ويصدر قانوناً آخر خالياً من أى قيد؟ الإجابة ليست معقدة، فهذا أمل كاذب لا نستطيع تحقيقه مهما فعلنا، ومن يتابع الكونجرس الأمريكى يدرك أن فيه اتجاهات غير مريحة بالنسبة لمصر إن لم يكن بعضها عدائياً تماماً، والأسباب هنا عديدة بداية من رفض ثورة الشعب المصرى فى 30 يونيو ونتائجها بالنسبة للإخوان، ومروراً بعدم قبول القيود الواردة فى قانون تنظيم الجمعيات الأهلية الذى أصدره البرلمان المصرى، التى تحد من تدفق الأموال الخارجية للجمعيات الأهلية ووضعها تحت رقابة حكومية صارمة، وهو ما يثير غضب كثيرين من رجال الكونجرس من الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، ونهاية باعتبار النظام المصرى بعيداً تماماً عن القيم الديمقراطية، وفى الكونجرس من يرى هذه المساعدات تقررت منذ العام 1980 من أجل ترسيخ السلام بين مصر وإسرائيل.
ونظراً لحالة الاستقرار السائدة بين البلدين، فلم تعد القاهرة بحاجة إلى هذه المساعدات، والأفضل أن توفر هذه الأموال للداخل الأمريكى، وفى الإعلام الأمريكى تقارير تتحدث عن عدم رضاء الإدارة عن العلاقات المصرية مع كوريا الشمالية، وتدعو مصر إلى قطعها.
والواضح أن عدم قدرتنا على تغيير القانون الأمريكى وفقاً لمصالحنا وطموحنا يعنى ببساطة أن أمامنا أحد موقفين؛ إما أن نرفض تماماً هذه المساعدات ونتحرر من كل قيودها وندفع الثمن المناسب، وإما نتكيف مع شروطها بطريقتنا الخاصة، وفى ظنى أن من المستحيل أن نرفض هذه المساعدات، لأنها مرتبطة أساساً بالتزام أمريكى تجاه السلام مع إسرائيل، وما دام هذا السلام ثلاثى الأبعاد فمن الضرورى أن يستمر على هذا النحو بكل ما فيه من التزامات متبادلة، ولذا يبقى لدينا المسار الأخير وهو التكيف المرن مع القانون الأمريكى بضوابط مصرية، والحق أننا نتبع هذا الأسلوب منذ عقدين على الأقل وهو ليس جديداً علينا أو عليهم، وهو تكيف يمزج بين الرفض للشروط الأمريكية المُبالغ فيها، والدخول فى حوارات من أجل إقناع الإدارة وبعض النافذين فى الكونجرس للتخفف من القيود والتركيز على بناء المصالح المشتركة وهى كثيرة ومتشعبة، وكذلك القيام ببعض الخطوات الجادة فى الداخل، التى من شأنها أن توظف فى تقارير الإدارة الأمريكية المقدمة للكونجرس للاستمرار فى صرف المساعدات وعدم إلغاء أى جزء منها.
وأعتقد أن كثيرين يرون هذا النوع من التكيف المرن يمس بالسيادة المصرية، ويحلمون باليوم الذى لا نحتاج فيه إلى سنت واحد يقرره الكونجرس الأمريكى، وإلى أن يأتى هذا اليوم، فالواقعية تفرض علينا أخذ الأمر بشىء من الانفعالات المنضبطة، والتركيز على إصلاح أحوالنا المضطربة فى السياسة كما فى الاقتصاد كما فى حقوق الإنسان.