يبدو أن معظم شبابنا -إلا من رحم ربى- قد أصبحوا مُحاصرين بثلاثة أخطار تحاول كل منها أن تتصيدهم.. فبين الاستغراق فى الإحساس بالاغتراب داخل الوطن بسبب حالة القلق على المستقبل، التى قد تسكنه فى أقرب مقهى أو «كافيه».. وبين محاولة الاستقطاب من جانب الجماعات الإرهابية أو المتطرفة اعتماداً على خداعهم باعتبارها صاحبة التوكيل الإلهى بامتلاكها «مفاتيح الإيمان وصكوك الجنة والنار».. وبين الانتحار بـ«الألوان الطبيعية» من خلال إدمان المواد الكحولية وتدخين المخدرات، بأنواعها وألوانها المختلفة..!
ما أعلنته الدكتورة غادة والى، وزيرة التضامن الاجتماعى رئيس مجلس إدارة صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطى -قبل ما يقرب من شهرين - من نتائج المسح القومى عن التدخين والمواد المخدرة والكحوليات بين طلبة المدارس الثانوى «العام والفنى»، أشبه بـ«قنبلة» اخترقت شظاياها بيوت كثير من الأسر -وهى تستعد لبدء عام دراسى جديد بعد أيام قليلة- خوفاً من أن يكون ذلك الابن أو تلك الابنة من بين هؤلاء الذين ينتظمون فى طابور الإدمان!!
الدكتورة «والى» قالت إن نتائج المسح الميدانى -الذى جرى فى «13 محافظة» ممثلة للأقاليم الجغرافية المختلفة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم- قد أظهر أن نسبة تدخين السجائر أو «الشيشة» قد بلغت 12.8% بين الطلاب بينما وصلت نسبة تعاطى المخدرات لـ«7.7%»، أما نسبة تعاطى الكحوليات فقد وصلت إلى 8.3%!
المؤكد أن هذه النسبة فى حد ذاتها تمثل كارثة كبرى بين طلاب المرحلة الثانوية الذين تتراوح أعمارهم ما بين 14 و17 عاماً، إذ إن خطورتها تكمن فى أن هؤلاء الطلاب هم فقط الذين جرى اكتشاف إدمانهم أو تقدم ذوى بعضهم إلى مراكز العلاج أملاً فى الشفاء.. وما خفى من مدمنى المدارس بالتأكيد أعظم..!
وإذا كانت الدكتورة «والى» قد أكدت أن هذه النتائج تتطلب اتخاذ مزيد من حزم التدخلات التى تتسم بالفاعلية والشمولية، وقدرتها على الوصول إلى عدد أكبر من المستفيدين، فإنها تحاول أن تلقى بـ«الكرة» فى غير ملعبها وتتنصل من مسئوليتها بوصفها الوزيرة المسئولة عن «ملف الحياة الاجتماعية للمجتمع بكامله»، وهى المسئولية التى يشاركها فيها وزراء التربية والتعليم والشباب إلى جانب الداخلية باعتبار أن الإدمان يمثل بداية الطريق نحو الجريمة..!
إدمان الطلاب يثير أسئلة عديدة حول دور الأسرة التى ربما يشغل عائلها إدارة شئون حياته ومشكلاته اليومية فى مراقبة أبنائها، ودور الوحدات الصحية بالمدارس والإدارات التعليمية المختلفة فى توقيع الكشف الطبى الدورى على الطلاب وإجراء التحاليل لهم لبيان خلوهم من داء الإدمان، ودور جمعيات التوعية بخطورة المخدرات والعوامل التى تسهم فى الإدمان، إلى جانب ما نطالب به الأساتذة من أن يكونوا قدوة صالحة لتلاميذهم دون أن يشغل بعضهم الجرى وراء «اصطياد زبائن جدد للدروس الخصوصية»!
أخطر ما يمكن أن تمثله ظاهرة إدمان الطلاب أنها تعكس ثقافة جديدة بدأت تنتشر بين أوساط الشباب، ألا وهى ثقافة «عمل دماغ» كما يحلو للشباب استحداث تعبيرات جديدة وإكسابها طبيعة تتسلل إلى لغة التخاطب فيما بينهم بين كل حين وآخر، وهو أمر مفزع حقاً.. فإذا كانت السيجارة فى الماضى القريب هى الموكل إليها هذه المهمة «عمل دماغ»، فالأمر قد انحدر أكثر إلى البحث عن وسيلة أخرى بدلاً من تلك الوسائل التقليدية! حتى إن كانت هى أول درجة فى الانحدار إلى هاوية الإدمان، وبالتالى إلى الجريمة أو الانتحار!
نتائج المسح تمثل إدانة واضحة لسلوك البعض فى مجتمعنا.. فقد غابت القيم والمثل الأخلاقية التى حافظت على المجتمع سنوات طويلة، وحل مكانها قيم ومفاهيم اجتماعية من نوع جديد لا تدين أحداً مهما كانت درجة «انحلاله وتسيبه»، طالما هو قادر على الحصول على ما يريده من مال، لتنتقل هذه المفاهيم إلى طلاب المدارس دون رقابة أو توجيه لأى منهم طالما اجتاز امتحان نهاية العام بأية وسيلة كانت، بزعم أن النجاح فى الدراسة هو كل المطلوب منه!! حتى إن كان الطالب أو الطالبة من الزبائن الدائمين لتلك المقاهى التى زرعت فى كافة الشوارع والميادين لتقدم الشيشة لمن هم فى سن دون الثامنة عشرة بدرجة لا تلفت نظر أحد، ما إذا كان من يدخنها شاباً أو فتاة بدعوى «التحرر والروشنة»!!.
وإذا كانت وزارة التربية والتعليم قد شددت فى تعليمات أصدرتها قبل عدة سنوات إلى مختلف الإدارات التعليمية على ضرورة تنفيذ قرار حظر التدخين نهائياً على معلمى المدارس والعاملين داخل الهيئات والمؤسسات التابعة للوزارة، فلا أعتقد أن هذا الحظر لا يزال سارياً حتى الآن!!
على كل حال فإن خطورة هذا الأمر تستوجب تكاتف وزارات «الشباب والتعليم العالى والصحة والتضامن والأوقاف والثقافة»، وكافة مؤسسات المجتمع المدنى لإعداد خطة قومية تخرج من أسوار النظريات إلى الواقع العملى وتبدأ الآن دون انتظار لأعوام دراسية جديدة لعلاج من قد يكون ضحية ثقافة «عمل دماغ»، خاصة أن دراسات عديدة أجراها الدكتور هانى الناظر -وقت أن كان رئيساً للمركز القومى للبحوث- سبقت «مسح الدكتورة والى»، وكشفت عن خطورة الظاهرة واقترحت حلولاً لمواجهتها، وأعتقد أنها لا تزال كائنة فى أحد أدراج مكاتب الحكومة ولم تخرج بعد للنور..!
الأمر يستوجب بالفعل البحث عن نقاط عملية لمواجهة الظاهرة ليس فقط بهدف علاج من هو مدمن من شبابنا بل لوقاية غيرهم من جموع الطلاب حتى لا نفاجأ ذات يوم بأن «المدرسة قد تحولت بالفعل إلى غُرزة»، وبأن أطفال الحضانة أو تلاميذ الابتدائية يرددون فى حصة اللغة العربية: باء فتحة «بانجو».. ميم ضمة: «مُدمن» بعد أن تبادلوا فيما بينهم سجائر «الحشيش»!!