الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١ كان يوماً خريفياً هادئاً ويبدو كل ما فيه عادياً، ليتحول فجأة إلى يوم سيؤرخ بما قبله وما بعده على مستوى العالم كله.
فى تمام الثامنة وست وأربعين دقيقة صباحاً بتوقيت نيويورك ارتطمت طائرة ركاب بأحد برجَى مركز التجارة العالمى بجزيرة مانهاتن، القلب الاقتصادى للعالم ورمز الحداثة والتقدم المعمارى المتمثل فى ناطحات السحاب، وبعدها جاءت طائرة أخرى لترتطم بالبرج الثانى، ثم طائرة أخرى ترتطم بمبنى البنتاجون، وزارة الدفاع الأمريكية، وتسقط رابعة فى محاولة فاشلة للاصطدام بمبنى الكابيتول، حيث مقر البرلمان الأمريكى. فى أقل من ساعتين كانت الحصيلة ٣٠٠٠ قتيل، من ٦٣ جنسية مختلفة أصغرهم فى الثانية وأكبرهم فى الثمانين. فضلاً عن الانهيار الكامل للبرجين والخسائر التى فاقت المليارات، ووقف العالم مذهولاً أمام أكبر عملية إرهابية فى التاريخ، والتى من المفارقات الغريبة أنه لم تطلق فيها رصاصة واحدة!!
كانت الصدمة مروعة بالرغم من العمليات الإرهابية السابقة لتنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، الذى أعلن مسئوليته عن الحادث، بل إن التيار نفسه حاول تفجير أحد البرجين ذاتهما فى محاولة أسفرت عن ستة قتلى وألف جريح عام ١٩٩٣، كما أنهم نجحوا بالفعل فى القيام بعملية تفجيرية لطائرة فلبينية بوينج ٧٤٧ عام ١٩٩٤، أسفرت عن مقتل مهندس كمبيوتر يابانى شاب وُضعت قنبلة أسفل المقعد الذى جلس عليه بعد أن غادر الإرهابى الطائرة، كما أنه تم ضبط مخطط لاختطاف الطائرات ضمن أوراق التنظيم أثناء عمليات ضبط بعض عناصرهم، وكان هذان الحدثان الأقرب -من حيث النوعية- لما حدث فى هجمات سبتمبر، لكن ظل التصور أن العمليات ستكون اختطاف طائرات وأخذ رهائن أو محاولات تفجير، وأعتقد أن أحداً لم يتصور إمكان أن يمتلك أحدهم القدرة على ممارسة هذا القدر غير المسبوق من العنف بهذا الشكل المباغت.
تباينت ردود فعل العالم العربى بين التعاطف مع الضحايا المدنيين وبين اللامبالاة، ولا ننكر أنه كانت هناك أصوات شامتة لم ننتبه لخطورتها فى هذا الحين، ثم بعد ذلك تحول الكثيرون إلى إنكار الحدث وعلاقته بتنظيم القاعدة ولا يزال هذا الاتجاه هو السائد فى العقل الجمعى العربى.
إذا كان بعض الغربيين أنفسهم يتبنون نظرية المؤامرة فى تفسير هجمات سبتمبر مثلما يفعل الكثيرون فى عالمنا العربى، فكلٌّ يرى فى فكرة المؤامرة مهرباً نفسياً من حقيقة لا يصدق وقوعها، فالغربى أو الأمريكى لا يصدق أن حفنة من هؤلاء المقبلين من بلادهم «المتخلفة» استطاعوا النيل من أمنه بكل الإمكانيات العلمية والتكنولوجيا المتطورة، أما على الجانب الآخر فهى محاولة لإزاحة المسئولية الأخلاقية عن ثقافتهم وإمكانية أن تنتج تلك الثقافة، التى طالما تباهوا بجانبها الأخلاقى والإنسانى، هذا القدر من الطاقة التدميرية للآخر وللذات، وهنا مكمن الخطر.
بصرف النظر عن المستوى الإنسانى لرد الفعل تجاه أكبر عمل إرهابى فى التاريخ، فإن الخطورة تكمن فى التعامل معه على أنه «حدث أصاب آخرين على الجانب الآخر من المحيط»، وكأن التسعة عشر انتحارياً الذين قاموا به لا ينتمون إلى تلك البنية الثقافية التى تحكم مجتمعاتنا، ولم ينتبه أحد إلى أن مثلهم ممكن أن يكون بيننا.
من المعلوم طبعاً أننا فى مصر والعالم العربى تعرضنا لويلات الإرهاب قبل هجمات سبتمبر وبعدها، ولكن لم يكن هناك قراءة حقيقية لهول الحدث كنذير لقدرتهم على زعزعة استقرار المنطقة بالكامل، وهو ما حدث لاحقاً وما زال يحدث حتى الآن منذ ٢٠١١.
لقد كان «١١ سبتمبر» أول ناقوس خطر يدق لينبئ بأن هذا التيار أصبح قنبلة موقوتة تعيش بيننا، لعدة أسباب؛ أولها أنه كشف مدى تجذُّر هذا التيار فى قطاعات غير متوقعة من الشباب، ثانيها الكشف عن أن إسقاطهم لأى قواعد اشتباك وتحللهم من أى رادع إنسانى يجعل عدداً ضئيلاً منهم يسبب خسائر تعادل نتائج حروب.
إذا كان ١١ سبتمبر يوماً يستحق أن نتذكر فيه كل ضحايا الإرهاب فى العالم، فالأهم أن ندرك أننا إذا أصبحنا اليوم -بفضل تضحيات جنودنا- أكثر أمناً، فإنه ما زال هناك الكثير من الجهد المطلوب لاجتثاث جذور الإرهاب على كافة الأصعدة، تعليمياً وفكرياً وثقافياً، إنها مسئوليتنا الأخلاقية تجاه أنفسنا وأجيالنا المقبلة والعالم، وسوف نتحملها بجدارة وشجاعة.
* أستاذ الفلسفة الإسلامية
بكلية الآداب جامعة عين شمس