الضجة التى شهدتها مصر بخصوص فتوى «مضاجعة الوداع» جديرة بالتأمل، وهى تستدعى على الفور ضجة مشابهة ثارت منذ سنوات بخصوص فتوى شاذة أخرى هى «رضاع الكبير»..
كلتا الفتويين شاذة وعبثية، لدرجة أنك يمكن أن تخلط كلاً منهما بالأخرى ليصبح العنوان هو «مضاجعة الكبير ورضاع الوداع».. فى الفتويين ستجد أن صاحب الفتوى هو ناقل بلا عقل.. لا يملك القدرة على الاجتهاد، ولا على إعمال العقل.. شخص يحترف تدريس الفقه ويعرف ما فى كتبه الصفراء.. يأتيه إعلامى يبحث عن إثارة أو عن ضجة، أو له مآرب أخرى فيسأله فى قضية غير منطقية، ولا صلة لها بمصالح الناس الحقيقية، ولا بمقاصد الشريعة وأهدافها الكبرى، وبدلاً من أن ينهره المفتى الناقل أو يُعرض عنه، فإنه يلعب معه اللعبة نفسها، ويمد يده فى جراب الفتوى ليخرج بفتوى غريبة عجيبة تُحدث أكبر قدر من الضجة، وتضمن لصاحبها أكبر قدر من الشهرة.. ولكى أكون منصفاً، ورغم ترخّص أصحاب هذه الفتاوى وعدم استيفائهم شروط الفتوى من الأساس فإن العيب الأكبر هو فى كتب الفقه.
مطالعة هذا النوع من الفتاوى تكشف أن الفقه القديم فى أغلبه الأعم، انشغل بمناقشة مسائل نظرية بغضّ النظر عن مدى ارتباطها بحياة الناس.. وفى فترة من الفترات كانت القضية التى شغلت فقهاء المسلمين هى فقه (الفساء)، وكان الخلاف يدور حول مسألة جدلية تقول ماذا إذا حمل المتوضئ قربة مليئة بالفساء؟ وهل يُفسد هذا وضوءه أم لا؟
ورغم أنه من غير الممكن أن يحمل أحدهم قربة مليئة بهذا النوع من الغازات! إلا أن مناقشة هذه المسألة استغرقت شهوراً وأسابيع من عمر فقهاء المسلمين! وربما كانت لذلك أسباب سياسية واجتماعية.. إلا أن الناتج النهائى هو أن كتب الفقه الصفراء تمتلئ بأحكام لم تكن ذات علاقة بحياة الناس، لا فى وقتها ولا الآن.
لكن هذا ليس كل شىء عن قصة فتوى المضاجعة والرضاع وغيرهما من الفتاوى.. إذ ثمة ملاحظة أخرى، وهى أن المصريين دأبوا خلال الثلاثين عاماً الأخيرة على طلب الفتوى فى كل شىء وحول كل شىء.. وقد ضاعف من هذه الظاهرة ثورة القنوات الفضائية وبرامج الهواء المفتوحة.. والظاهرة التى تحتاج إلى دراسة هى دليل انكشاف ثقافى مرعب.. وهى ناتج لغياب الثقافة وغياب دور الدولة والمجتمع المدنى والمثقفين والأحزاب، حتى بات بسطاء الناس لا يجدون من يسألونهم فى شئونهم غير من يقدمون لهم باعتبارهم رجال دين ودعاة وفقهاء، رغم أن معظمهم ليسوا كذلك.
إلى جانب هذه الظاهرة «طلب الفتوى فى كل شىء»، ثمة ظاهرة ثالثة، وهى «تسليع الفتوى»، أى تقديمها كمنتج تجارى ينافس برامج الطبيخ والفن والرياضة على الإعلانات، وعلى نسب المشاهدة.. وبالتالى تظهر الحاجة إلى تسخين المادة المقدّمة وإحاطتها بأكبر قدر ممكن من الإثارة، فيكون اللجوء إلى فتاوى المضاجعة والطهارة والجنس كوسيلة مضمونة للإثارة.. وهى إثارة يشترك فيها مقدّم البرنامج والضيف الفقيه الذى يتخلى عن البعد الرسالى للفتوى (أن يكون صاحب رسالة) وحتى عن الوقار الأكاديمى اللازم ليلعب دور الضيف الباحث عن الشهرة، وما يرتبط بها من مكافآت مادية وندوات مدفوعة واتفاقات للوعظ فى رحلات الحج الفاخر، وهى كلها أمور ليس لها علاقة بجلال الفتوى، ولا بسمو دور الفقيه.. ودون إصلاح حقيقى للفكر الدينى يفتح باب الاجتهاد فى الفقه، ودون نظرة أخرى إلى موقع الدين والمطلوب منه فى المجتمع فإن إصلاح الخطاب الدينى سيظل ضرباً من الخيال، والله أعلى وأعلم.