حسناً ما فعلت «أم كلثوم نجيب محفوظ» بقرارها كتابة شهادتها لـ«الأهرام»، التى تحمل عنوان «هذه شهادتى»، بغرض كسر الحصار الذى كانت تشعر به الأسرة لحجب كل محاولات الرد -حسب تعبيرها- على سلاسل الهجوم على «نجيب محفوظ».. وعلاقته بأسرته، والتى بلغت من الاستباحة والتشكيك درجة أن كتب أحدهم صفحة كاملة يؤكد فيها أنه لا علاقة حقيقية تربط بنات «نجيب محفوظ» بوالدهن.. وأنهن لا يعلمن شيئاً لا عن شغله ولا عن حياته كأب وكزوج.. وأن الأصدقاء هم «العارفون» حتى بتفاصيل علاقته ببناته، وتبدى «أم كلثوم» دهشتها البالغة من سلوك أولئك الذين أعطوا لأنفسهم الحق فى الحكم على علاقة زوج بزوجته.. أو أب ببناته.. خاصة مع أب وزوج كنجيب محفوظ.. كان معروفاً عنه أنه يميل إلى المحافظة وفصل شئونه الشخصية عن الحياة العامة.. وكان يرى أن الأصح والأصوب هو احترام خصوصية هذه الحياة بعيداً عن الشأن العام.. وتقول: «كان ما يكتبه البعض يكاد يصور الأمر وكأن أبى لا زوجة له ولا بنات، بأسلوب استباح كل الأعراف والقيم»، وتؤكد أن بعض الذين دخلوا حياة «محفوظ» بعد محاولة الاغتيال تبنوا أسلوباً يصورون فيه أنهم وحدهم يعرفون عن «محفوظ» وزوجته وبناته ما لا يعرفه الآخرون.. وفى تصريح هؤلاء نوع من التجريح والترويج لعلاقة «محفوظ» بأسرته، ويمنحون أنفسهم حقوقاً من بينها الحكم على صدق معلوماتهم عن علاقة الراحل الكبير ببناته باعتبارهم مقربين منه يمارسون نوعاً من الادعاء والوصاية.. مؤكدة: «لقد استباحوا حياتنا الخاصة وبلغت بهم الجرأة بفرض رؤيتهم على علاقتنا بالله سبحانه وتعالى.. ووصل هذا إلى حد الابتذال حين وصفونى أنا وأختى وأمى بـ(الداعشيات)».
والحقيقة أنى لا أشعر بالمبالغة إذا قلت إن ما طرحته «أم كلثوم» الآن بنوع من الفضفضة والتنفيس عن مشاعرها الأليمة والمتراكمة التى لا تتصور أن يكون كل هذا الجحود وكل تلك القسوة والغلظة والطعنات الكريهة هى ما يمثله حصاد الأيام وثمار رحلة أديب عظيم وأسرته الكريمة..
أقول إننى لا أشعر بالمبالغة إذا قلت إن تلك محاولة اغتيال ثالثة لـ«نجيب محفوظ»، فحينما غرس إرهابى يعمل سماكاً من أعضاء الجماعة الإسلامية، سكيناً فى رقبة كاتبنا الكبير (1994) بغرض اغتياله بتكليف من الجماعة.. فإنه فى واقع الأمر قد غرسه فى رقبة العصر.. وفى رقبة ضمير الأمة سعياً وراء القضاء على الفنون والآداب، وبالتالى يتم سيطرة الظلاميين والتكفيريين على جميع مناحى الحياة.
إن الاعتداء على «نجيب محفوظ» ليس اغتيالاً سياسياً كالذى عرفه تاريخنا السياسى القديم والحديث.. إنما هو اعتداء على أكبر قلم أدبى على الساحة العربية فى هذا العصر.. وكان الأستاذ «محمد سلماوى» هو أول من التقى بالأديب الكبير فى مستشفى الشرطة فى اليوم التالى مباشرة للحادث الأليم، وحينما سأله عن مشاعره تجاه ما حدث قال على الفور: «إن شعورى مزدوج.. فمن ناحية أشعر بالأسف لتكرار جرائم الرأى. وأنه لشىء مؤسف جداً ومسىء لسمعة الإنسان فى العالم أن يؤخذ أصحاب الرأى.. أصحاب القلم هكذا ظلماً وبهتاناً.. ومن ناحية أخرى أشعر بالأسف أيضاً من أن شاباً من شبابنا يكرس حياته للمطاردات والقتل.. فيطارد ويقتل ذلك بدلاً من أن يكون فى خدمة الدين والعلم والوطن.. لقد كان شاباً يافعاً فى ريعان العمر.. كان من الممكن أن يكون بطلاً رياضياً أو عالماً أو واعظاً دينياً.. فلماذا اختار هذا السبيل؟!».. وقد بلغ «نجيب محفوظ» قمة الرقى الإنسانى وسمو الخلق وشفافية الروح حينما سأله «سلماوى»: ما شعورك تجاه ذلك الشاب؟.. فقال على الفور: «إنه ضحية.. لذلك فشعورى نحوه هو شعور الأب تجاه الابن الذى ضل الطريق.. إنه شعور أكثر إيلاماً مما يمكن أن أشعر به تجاه أى مجرم عادى».
أما محاولة اغتياله الثانية (الأدبية) فقد تمت من قبل شيخى السلفية «عبدالمنعم الشحات» و«ياسر البرهامى»، والأول هو المستشار الإعلامى لهيئة الوصاية على الأخلاق الحميدة والسجايا العطرة، والثانى هو سفير العاملين على إطفاء شموع الحضارة وإظلام مشاعل التنوير.. وقد تم ذلك من خلال وصفهما لأدب نجيب محفوظ بالانحلال والانحطاط وتحويل مصر إلى خمارة كبيرة.. والمساهمة فى هدم الأمة وشيوع الفجور والرذيلة.. والطعن الصريح فى الدين والعقيدة، حيث إن فلسفته الإلحادية تدعو إلى إعلاء موت الإله ومولد الإنسان (السوبر مان) خاصة فى روايته الشهيرة «أولاد حارتنا» وهى ذات الأفكار التى يروج لها الغرب الملحد ويصفق لها.. وكانت سبباً رئيسياً فى فوزه بجائزة نوبل..
وهكذا.. فإنه من الطبيعى أن إصدار أحكام دينية على مصنف أدبى أو فنى بحجة تكريس قيم وسجايا عطرة تسهم فى شيوع الفضيلة فى ربوع (يوتوبيا) الأرض الطيبة عن طريق ارتداء عباءة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، سوف يؤدى ذلك إلى حمل لواء مصادرة الرأى الآخر.. والذوق الآخر، ووأد حرية التعبير والإبداع واحتضان الفنون والآداب الكافرة.. انتصاراً للفضيلة التى تبكى وتنتحب من جراء اجتراء الفكر الانحلالى عليها.. واعتداء الملاعين من الفنانين.. والأدباء إخوان الشياطين على ثوبها الطاهر..
ثم تأتى محاولة الاغتيال الثالثة -للأسف من نيران صديقة- من بعض الذين تقربوا من «نجيب محفوظ» فى فترة حياته الأخيرة، لعل منهم من أراد تبرئة نفسه من ممارسات مخلة بالأمانة والثقة.
وجدير بالذكر أن أسرد بهذه المناسبة واقعة جرت بعد نجاة الأستاذ من محاولة الاغتيال الغادرة.. وكتب الله له أن يعيش بعدها اثنتى عشرة سنة.. وإن كان لم يتخلص نهائياً من آثار هذه الطعنة فى رقبته.. فقد ظل يعانى صعوبة فى حركة يده اليمنى حتى النهاية.. هذه الصعوبة لمستها حينما توجهت إلى منزله بعد خروجه من المستشفى بناء على موعد إثر اتصال الأستاذ «ممدوح الليثى» به.. ومعى عقد التنازل عن قصة «أهل القمة» لتجسيدها فى مسلسل أكتب له السيناريو والحوار بنظام المنتج المشارك مع قطاع الإنتاج.. لكنه فاجأنى برغبته فى تأجيل التعاقد بالإضافة إلى رغبته فى أن يدخل المبلغ فى ضرائب العام المقبل.. فوضحت له أن الشركة المنتجة قررت إعفاءه من الضرائب، وأنا أقصد من ذلك أنها سوف تتحمل الضرائب نيابة عنه.. ولكنه غضب ورفض.. وأتذكر جيداً أن ابنتيه أسرعتا بالتدخل واشتركتا فى الجدل المثار حول تلك النقطة.. ووضحتا له بأدب جم ولباقة ملحوظة أن لبساً قد حدث وأن تصوراً خافتاً قد فهمه.. وأنه ليس هناك أى خطأ فى الأمر وأن الموقف القانونى والضرائبى سليم ولا تشوبه أى شائبة.. بالعكس، إنه إجراء فيه الكثير من التقدير لشخصه.. وبناء عليه تم التعاقد فى جو من الود، وأعتقد أن ذلك يوضح تماماً عكس ما أثاره المغرضون وافتعله النمامون والطفيليون والأدعياء عن العلاقة السلبية والانفصال الفكرى والاجتماعى والنفسى بينه وبين زوجته وابنتيه..
لذلك فإنى أضم شهادتى إلى شهادة الفاضلة «أم كلثوم».. وبئس ما تمكر به النفوس المريضة.