فى أعقاب إعلان انتخابه رئيساً لمصر، ذهب الدكتور محمد مرسى ليلقى كلمة للشعب، فخاطب الجمهور قائلاً: «أهلى وعشيرتى»؛ وهو النداء الذى ظل يجسد إشكالية الخطاب العمومى «الإخوانى» لاحقاً، كما أعطانا فكرة واضحة عن انغلاق تلك الجماعة، وتهافت رؤيتها السياسية، وتصورها عن دورها ونفسها.
كان «مرسى» نفسه قد تورط ورطة أكبر، حين خطب فى مؤتمر جماهيرى، بوصفه قيادياً فى الجماعة، فى العام 2010، بإحدى المحافظات، إذ رأى أن الجمهور جله من أعضاء الجماعة ومؤيديها والمتعاطفين معها، فراح يجلجل واصفاً اليهود بأنهم «مصاصو دماء»، و«أحفاد القردة والخنازير»، كما طالب المستمعين بأن «يُرضعوا أبناءهم كراهية اليهود».
لم يكن «مرسى» يدرى أنه حين خاطب هؤلاء المؤيدين، فى تلك الجلسة المغلقة، كان ثمة من يصوره بالفيديو، وأن هذا الفيديو تمت أرشفته، وأمكن استدعاؤه لاحقاً بطريقة سهلة للغاية، مما أوقعه فى ورطة كبيرة؛ إذ ظهر أن هذا الرجل بات ممثلاً لفصيل غاية فى الانتهازية السياسية، فى رئاسة جمهورية مصر العربية، ومن منطلق براجماتى راح يرطب العلاقات مع إسرائيل، حتى إنه وصف نظيره الإسرائيلى شيمون بيريز، فى رسالة رسمية، بـ«الصديق الحميم»، وتمنى لدولته «التقدم والرفاه».
من «أحفاد القردة والخنازير» إلى «أصدقاء حميمين»، تحول الإسرائيليون فى خطاب «مرسى»، ومن تحريض الجمهور على كراهيتهم إلى الدعاء لهم بـ«التقدم»، تحولت مشاعر هذا الأخير تجاههم، فى مدة لم تتجاوز سنتين.
يعطينا هذا فكرة واضحة عما طرأ على مفهوم الاتصال من جانب، وعن القيود التى تكثفت على مخاطبى العموم فى عالمنا من جانب آخر.
شىء مثل هذا حدث حين ظن الداعية اللامع عمرو خالد أنه بدعائه لـ«متابعى صفحته» على موقع «فيس بوك»، واختصاصهم بمحبته واهتمامه، فى ما كان يؤدى فريضة الحج قبل أسابيع، يمكن أن يمر مرور الكرام.
ببساطة، لم يمر هذا القصر فى الدعاء، وتم إلحاق الأذى بالداعية، لأن ملايين آخرين كان بوسعهم أن يستمعوا إليه، وكان من حقهم أن يشعروا بالإقصاء، قبل أن يسخروا مما اعتبروه «انتهازية وتزلفاً»، يريد منه هذا الأخير أن يحصد «لايكات» وأن يزيد عدد المعجبين.
لقد تغير الفضاء الاتصالى الذى نعيش فيه تغيراً جوهرياً فى العقدين الأخيرين؛ وهو تغير يبدو أن كثيرين لم يدركوا أبعاده بعد، ولذلك فهم يدفعون أثماناً فادحة.
وببساطة شديدة، ثمة عاملان يؤطران هذا الفضاء الاتصالى راهناً؛ وهما: الأرشيف، ولامحدودية التلقى، وبلغة أوضح فإن كل ما تقوله أو تفعله، علناً أو سراً، يمكن أن يكون متاحاً لأوساط تَلقٍّ غير تلك التى تظن أنها تسمعك، كما أن كل ما تقوله أو تفعله، علناً أو سراً، يمكن أن يُسجَّل، ويُؤرشَف، ويُستدعى فى وقت ما.
يفرض هذا على صناع الخطاب العمومى، والمتحدثين العموميين، والنجوم، والشخصيات العامة مزيداً من القيود، وهى قيود تفرض التزامات جديدة، وطريقة مختلفة فى الحديث والتصرف، وهو أمر يمتد ليشمل مجالات السياسة، والاقتصاد، والفن، والرياضة، والخطاب الدينى.
ولمزيد من تقريب المسألة، فإن دولتنا مثلاً تعتمد خطاباً مزدوجاً حين تتعاطى مع مجال حقوق الإنسان، ومن بين أعراض هذا الخطاب المزدوج أنها تشن حملة فى المجال العمومى الداخلى على كثير من الحقوق المعترف بها والمصدق عليها، فتهينها وتغرى بها، معتقدة أن هذا الخطاب لـ«الاستهلاك المحلى»، وأنه لن يخرج عن إطار التلقى الذى يستهدفه، قبل أن تُصدَم، ونُصدَم معها، حين نعرف أن كل كلمة نقولها فى هذا الصدد، أو نسمح بتداولها، تصل إلى الخارج، وتؤرشَف، وتُستدعى، لندفع ثمنها ونُحاسَب عليها. وفى السياسة، تجتهد معظم المنابر المحسوبة على الموالاة فى انتقاد الإدارة الأمريكية، وتُسرف فى اعتبارها عدواً، واتهامها بالعمل على تقويض دولتنا، وتفتيتها، ظناً بأن هذا الخطاب الذى يستهدف وسط التلقى المحلى لا يمتد إلى الخارج، ولا يسمعه الأمريكيون، الذين نعتقد بأنهم يكتفون فقط بما نقوله لهم فى المقابلات الرسمية، والخطابات الدبلوماسية، والغرف المغلقة.
الشىء نفسه يحدث تقريباً مع إسرائيل، التى نعاملها كعدو فى الخطاب الداخلى، وكصديق وشريك فى الخطاب الخارجى، وكأن الإسرائيليين بُلهاء يمكن أن ينخدعوا ولا يرصدوا تلك الازدواجية.
الشىء نفسه يحدث فى الخطاب الدينى، حين يعتقد بعض الدعاة أن ما يقولونه لا يخص سوى المسلمين المتدينين، ولذلك فهم يذهبون إلى «تكفير المسيحيين»، وإلى «الدعاء على غير المسلمين» بالهلاك فى خطب المساجد، أو قصر الدعاء بالخير على المؤمنين دون سواهم.
لكن هؤلاء الدعاة وممثلى المؤسسة الدينية يغيرون كلامهم حين يتحدثون فى منتديات «حوار أتباع الأديان»، وحين يذهبون إلى الكنائس لتقديم واجب العزاء فى ضحايا الإرهاب من إخوتنا المسيحيين، وحين تتم دعوتهم إلى منتديات «الوحدة الوطنية».
هناك مبحث رئيسى يجب أن يتعلمه كل من يتصدى للعمل العام، وتضطره مهامه إلى أن يتحدث للجمهور؛ وهو مبحث يُسمّى «تشخيص الجمهور».
وتقول الأدبيات الكلاسيكية فى هذا المجال أن المتحدث عليه أن يحدد سمات جمهوره، ويختار المضامين وطرق التعبير الملائمة له، حتى ينجح فى إدراك أهدافه من الخطاب.
يؤسفنى بشدة أن أشير إلى أن ذلك ليس سوى «تاريخ دراسات الخطاب العمومى»، لأن أولى قواعد الخطاب الأكثر حداثة تشير إلى لامحدودية نطاق التلقى، بحيث يصبح جمهور الخطاب العمومى العالم بأجمعه، بمن فيه المؤيدون والمعارضون، والأصدقاء والأعداء.
يظن البعض أن السياسى المسئول فى منأى عن الالتزام بتداعيات تلك القاعدة الأحدث، ما دام يتحدث فى نطاق خاص.
إن هذا التقييم خاطئ بكل تأكيد، لأن عهد الخصوصية، بكل بساطة، انتهى.
بسبب جملة من التطورات التقنية، التى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها الآخر، بات كل مسئول سياسى مراقَباً معظم الوقت، وضمن تلك المراقبة، فقد يتم تسجيل، وأرشفة، ما يقوله فى النطاق الخاص، ثم استدعاؤه، وإذاعته لاحقاً فى العلن.
لقد عرفنا أن الولايات المتحدة مثلاً استطاعت أن تتنصت على محادثات سرية لقادة أوروبيين مرموقين؛ بينهم المستشارة الألمانية، والرئيس الفرنسى.
وعرفنا أيضاً أن بعض ما قاله قادتنا فى اجتماعات مغلقة، أُذيع على العلن، وأصابنا بأفدح الأضرار، كما أدركنا مثلاً أن الزيارات السرية، واللقاءات غير المعلن عنها، خرجت إلى العلن، وباتت جزءاً من السياسة والتاريخ، والفقرات الانتقالية فى القصص الصحفية.
والمطلوب ببساطة، أن يعرف كل متحدث عمومى أن ما يقوله علناً دائماً، وسراً فى بعض الأحيان، سيخرج يوماً إلى الناس، وسيسمعه ويدركه ويتأثر به هؤلاء الذين يستهدفهم الخطاب، كما سيصل إلى الآخرين مهما كانوا بعيدين.
يفرض هذا على الشخص العام، والمتحدث العمومى، أن يضبط خطابه، وأن يختار إفاداته بعناية، وأن يزنها بميزان الذهب.
ويعيد أيضاً الاعتبار لحكمة فارسية قديمة لا يلتفت إليها كثيرون؛ وهى حكمة تقول: «الكلام المباشر لا يصدر عن فطن».