يُقال: «مَن راقب الآخرين أضاع نصف راحته»، عن أناس فى زماننا وعلى مقربة منا أتحدث، مِن المنشغلين عن أنفسهم بمن حولهم؛ الذين يحتسون فنجان قهوتهم الصباحى مع خصوصيّات الآخرين، وأجندتهم عامرة بمن سيلوكون لحمه على مائدة الغداء، ومن سيختمون يومهم وهم يتسلّون بسيرته مساءً أمام التلفاز. فقد تكون أنت وشئونك موضوع حديثهم وقلب اهتمامهم، إذ خوّل لهم الفراغ الفكرى والخواء الحياتى وخصومتهم مع الذات والقيم صلاحيات اختراق حُجُبِك، ومنحهم صكّ الوصاية عليك دون علمك أو إذنك. وإليكم بعض آفات مجتمعنا.
شاب وفتاة تآلفت روحاهما، وأصبح قرار الارتباط جاهزاً على مائدة عشاء عامرة وسط احتفاء أسرى وفرحة غامرة، فإذا بالعمّ المتجهّم أو الخال المتسلّط، أو القريب المتحذلق، أو أحد الوالدين المتعصب يصدر فرماناً مفاده أن هذا الارتباط باطل وإن استمر فعليهما أن يدفعا ضريبته مدى العمر لصاحب الفرمانات؛ وعند الاستفسار، تذهلك رجعية المنطق وغياب الحكمة، مسدلاً بذلك ستار النهاية لقصتهما قبل أن تبدأ، أو متربصاً بهما إن واصلا المسيرة، ومخلّفاً خدوشاً فى قلوبهما وندوباً فى أرواحهما؛ واقع مؤسف يعايشه مجتمعنا، وهذا ما أثبتته دراسة أجراها الجهاز المركزى للتعبئة العامّة والإحصاء عام 2016، أن 20% من الخلافات الزوجية سببها تدخّل الأهل والأقارب.
وصاية أخرى على حياة زوجين أدرك أحدهما مبكراً أن علاقتهما غير ناجحة، وأنّ أبغض الحلال أهون من انتهاكات يومية ومشكلات تتفاقم وتتراكم تنتهى بعواقب وخيمة لأحدهما أو كليهما. ولكن لا يتوانى القاصى قبل الدانى بالتدخّل لإصلاح ذات البين، ويدلون بما فى جعبتهم من آفات فكرية وحجج متخلفة بأنّ الطلاق معيب وحاملةُ اللقب منبوذة فى محيطها، حتى إذا مرّت السنين وخلّفت دماراً صحياً ونفسياً للزوجين أو أحدهما وحفنةً من الأولاد ضحايا للعنف والخلافات الأسرية، تنتهى الحلقة الأخيرة بالانفصال، وينتهى مصير أكثر من 9 ملايين طفل مصرى بعيداً عن أحد الأبوين، أو متسكعاً فى إحدى الحارات الموبوءة والمدمرة، أو بائعاً متجوّلاً فى الإشارات المرورية؛ فلا نستغرب إحصائيات الجهاز المركزى بأن مصر تشهد حالة طلاق كل 4 دقائق، 13% منها حدثت بسبب العنف الأسرى، و25% لعدم النفقة على البيت والأولاد؛ وكلّها أرقام مشينة لأنها تتحدث عن قنابل موقوتة تعيش بيننا، لها انعكاساتها على الجرائم وإدمان المخدرات والاضطرابات النفسية والسلوكية.
مسلسل وصاية آخر تدور أحداثه فى نهاية المرحلة الثانوية، حيث يضيع حق فئة من الأبناء والبنات فى اختيار التخصص الجامعى الذى يتوافق مع رغبتهم وموهبتهم وقدرتهم على مقصلة ميول وأنانية الأهل، فإذا أتى الميول لتخصص أدبى أو مهنى أو تقنى، يأبى الأهل إلا ذلك التخصّص العلمى المرموق الذى يُعلى شأنهم فى المجتمع ليتفاخروا بصنيعهم، ويُغفلون أن أحد أهم أسباب النهوض فى الدول المتقدّمة ميول 40% إلى 60% من الطلاب للتخصصات الجامعية المهنية والتقنية، بينما يلجأ 10% فقط للتخصصات العلمية. أما فى مجتمعاتنا فيتدخّل 40% فى اختيار التخصص الجامعى للإناث، فينتهى مصيرهم، لا هم لمسوا أرض الشغف بدراسة ما يحبون، ولا هم ارتقوا سماء الإبداع فى مجال التخصص المفروض عليهم، فتنهال عليهم عبارات اللّوم على تحصيلهم الأكاديمى المتدنى وتلازمهم الأمراض النفسية فى باقى رحلتهم، إضافة إلى معاناتهم من البطالة.
يا سادة يا كرام.. فى أدب الحياة هنالك ما يُسمّى «احترام الخصوصية الحياتية، والفروق الفردية، والرغبات الشخصية، والقدرات العقلية، والاهتمامات المعرفية دون وصاية»؛ فما أسهل أن تأخذ الحصان إلى النهر، وما أصعب أن تجبره على شرب الماء.