فى سنة من السنين، كنت وجمال الغيطانى فى معرض أو فعالية ثقافية للجامعة الأمريكية، تخص كتاباً جميلاً مصوراً من نشر الجامعة الأمريكية، وبينما نحن نمر على أرفف الكتب، لمحت على بعد خطوات السيد «سميح ساويرس».. سألت جمال: هل تعرف الواقف هناك؟ أمعن جمال النظر، ثم أجاب بالنفى.. قلت له إنه على ما أعتقد «سميح ساويرس».. ثم استمررنا فيما كنا فيه.. بعدها التفت إلىّ جمال متسائلاً، كأنه يستأنف حواراً داخلياً: «طيب ما يمد إيده لدعم الثقافة».. رددت أنا: «طب والله فكرة.. ما تعرض عليه».
الحقيقة أنه قبل أن أتم الجملة وجدنا السيد ساويرس فى المواجهة، وتحولت الفكرة التى طرحها جمال الغيطانى إلى اقتراح حدده الغيطانى وقاله لسميح ساويرس «بإقامة أو تنظيم، جائزة لفن القصة والرواية».. كان تلقى السيد سميح، إحقاقاً للحق، باشّاً وبسيطاً ومفاجئاً لى.. وبالفعل أخذ سميح ساويرس بفكرة جمال الغيطانى على الفور، وتشكل مجلس أمناء للجائزة، تولت مسئوليته السيدة شمس الإتربى، وهى مصرية، وطنية، فنانة، ممن يتوارون بأفعالهم الطيبة بعيداً عن أى أضواء.. ووُلدت «جائزة ساويرس فى الأدب»، التى استمرت بشكل «مؤسسى»، لا أثر فيه لأى فردية مالية، مؤسسة نبعت من مؤسسة يتولاها أساتذة فى الجامعة ونقاد ومختصون، دونما أى تدخل من السيد سميح الذى لا يظهر إلا يوم تسليم الجائزة. وأعتقد أن الجائزة نالتها أسماء تحظى بالاحترام والقيمة من عدة أجيال، مما أكسبها مصداقية واحتراماً على مدى السنين الماضية، وهى جائزة تشكل دعماً جاء من «حقل رجال الأعمال» للثقافة. هذه الحكاية، التى ربما لا يعرفها الرأى العام، استحضرتها وأنا أتابع عن بعد، ومن الشاشات، فى بيتى، مهرجان الجونة السينمائى. أو أول مهرجاناتها السينمائية برعاية الأخوين نجيب وسميح ساويرس. حظى المهرجان بدعاية إعلامية، بصرف النظر عما أحدثه ممثل شاب من لغط أو سلوك فج فى الافتتاح، واستشرف متابعه «إدارة» ذكية، محترفة، صاحية. ما يستوقف المرء هو ما أثير حول مقارنة، لا أراها فى محلها، بين المهرجان الأم، وأعنى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، الذى ترعاه الدولة، وبين مهرجان الجونة، وتعمد القول أن مهرجان الجونة يأتى «خَصماً»، (بفتح الخاء)، و«خِصماً»، بكسر الخاء، لمهرجان الدولة. التساؤل المبدئى: لِمَ؟ لِمَ تكون الرؤية من هذا المنظور؟ لماذا لا يكون الطرح بالإضافة؟ يعنى لماذا لا يتم النظر إلى ميلاد مهرجان دولى يقام على مساحة من الوطن على أنه إضافة، بدلاً من افتعال تناقض؟
أنا لا يعنينى من تولى الإنفاق ولكن أقف عند الفعالية و«الرسالة» التى ترسلها للعالم، فى لحظة أنت فيها محاصَر.. ما هى هذه الرسالة، التى أتلقاها كمواطنة، بعيداً عن أى تأويلات أو كواليس؟
ببساطة، كمواطنة مصرية أرى أن هناك عنصرين فى «الرسالة». الأول، ضخ الحيوية فى صناعة السينما والتأكيد على أن مصر تسترد جزءاً من مسارها، خطوة فى مشوار فى أمَسّ الحاجة لخطوات.. ثم الرسالة الأهم وهى أن مصر تملك من مقومات الجمال المكانى ما يضارع وينافس ويجعلها الأحق بالزيارة والسياحة و... و... إلى آخره. إنه عمل أستطيع أنا وضعه فى سياق «تحية للحياة»... أو دعم لإقامة الحياة على «تلك الأرض» التى نتغنى بحبها ليل نهار.. فكرة خرجت من سياق الحب الشفهى، الذى لا يكلف صاحبه غير الكلام، إلى حيز العمل والتطبيق.. ما هو «المُضر»، أو ما هو المستفز فى ذلك؟ عندما يتردد اسم مصر مقترناً بمثل هذا المهرجان، وتبث رسائل جمالية، آمنة، تعج بالحياة، عبر على الأقل أربع وكالات إعلامية دولية «احترافية»، ولا تترك المسائل للصدفة، كيف لا يكون ذلك فى صالح مصر؟ قد لا يكون جمهور الجونة عينة للسواد الأعظم، وقد لا تكون الجونة كل مصر، لكنها جزء من مصر، مثلها مثل مناطق أخرى فى الدنيا.. أتعجب من بعض ما قرأت من أقلام أحترمها، ولها كل الحق فى تبنى ما تشاء من وجهات النظر، لكن القول بأن وراء دعم الفن أو الثقافة، محاولة من رجال الأعمال لاستمالة الفنانين أو المثقفين، والله خير وبركة، وليتنافس المتنافسون فى دعم الفن والثقافة حتى لو كانت لهم نوايا أو أهداف للترويج لأنفسهم.. لماذا لا ترفضون تلك الاستمالات حين تأتى من خارج الحدود؟ ألا تستشعرون «غيرة»، من بقاع قاحلة صارت مقاصد للفن والثقافة.. ألا تستحق مصر بطولها وعرضها ومخزونها أن يقام بها عشرة أو عشرون مهرجاناً للسينما والموسيقى والمسرح؟
طيب، إذا كانت الدولة «بعافية»، ويأتى من يريد أن يدعم نشاطاً أو فعالية ثقافية، لماذا نضعه فى تناقض مع المصلحة العامة؟
يقال إن رجال الأعمال يستفيدون بالترويج لأنفسهم.
وما المانع؟ والله «عفارم»، «عفارم» أن يدرك بعض رجال الأعمال أن «الثقافة» قيمة، ترفع حتى من شأن المليارات! ما لم يطالب أصحاب الأموال أهل الثقافة، والثقافة، بما يتناقض وقيمها أو بتنازل من أى نوع، فما الذى يضير يا سيدى إن استقطبت الثقافة منهم بعض الدعم؟
يقيمون مهرجانات وبعدها ينتجون أفلاماً، يقيمون مكتبات ومسارح، ونساعد نحن «بالرؤى»، «ننور» لهم الطريق.. كلٌّ، وما يستطيع.. دعم كاتب.. موسيقى.. رسام.. مخرج.. شاعر..
والله جزء من «العمل الوطنى»، بل إنه فى «تحية الحياة»، وما ينفق عليه «حلال»!
(بالمناسبة: أنا لم، ولا أدعى، إلى أى فعاليات مما كتبت عنها).