كنت فى زيارة للعاصمة اللبنانية بيروت الأسبوع الماضى، للمشاركة فى مؤتمر خاص بالإعلام تم عقده على مدار يومين تحت عنوان «إصلاح الإعلام: المهنية والمأسسة»، وبعد انتهاء المؤتمر كنت قد قررت أن أمكث ليومين آخرين هناك، وذلك بعد أن علمت بعودة صديقى العزيز «ريمون قبشى» من فنزويلا (وريمون يعمل مستشاراً سياسياً للشئون العربية لرئيس فنزويلا «مادورو»، كما كان أيضاً مستشاراً لـ«تشافيز» الرئيس السابق لمدة 15 عاماً، وهو من جذور عربية، فهو لبنانى مارونى، قومى وناصرى حتى النخاع). وبالرغم من ضيق الوقت إضافة إلى كل المسافات التى تفصل بيننا على عدة أصعدة فإننا دائماً ما نتلاقى فى مساحة رحبة حيث تجمعنا الإنسانية ممزوجة بعلاقة روحية وفكرية فريدة.
وقد رتبت أمورى وقررت العودة فى يوم الخميس كى أستطيع تلبية الدعوة الكريمة لحضور حفل توقيع كتاب «هيكل الآخر» لأستاد فن الحوار والصحفى الكبير والإعلامى القدير، المحاور الأقوى على الإطلاق، الأستاذ مفيد فوزى، بمؤسسة «روزاليوسف».
وتصادف أن يكون تاريخ يوم عودتى هو 28 سبتمبر.
ولعلنا نتذكر أن يوم 28 سبتمبر 1961م هو ذكرى إنهاء الوحدة ما بين مصر وسوريا، كما أن يوم 28 سبتمبر 1970م أيضاً هو ذكرى وفاة الزعيم والقائد جمال عبدالناصر بحسب التتابع التاريخى.. فياله من يوم تاريخى!
ونظراً لمحدودية المساحة -هنا- سأحاول فى إيجاز شديد للغاية أن ألقى بعضاً من الضوء على مشهدين أحدهما هنا والآخر هناك، وأعلم أننى لن أستطيع أن أوفى الذكريين حقهما حتى وإن أفردت لهما أضعافاً مضاعفة من مجرد مساحة محدودة فى مقال، ولكنى فى ذات الوقت لم أستطِع بحال من الأحوال سواء على المستوى النفسى أو الوطنى أو القومى أن أمر عليهما مرور الكرام، لأنهما بالمثل لم يمرا كذلك، ومن إيمانى بأن التجربة الإنسانية لا تنقطع، كما أن حركة التاريخ لا تتقدم من فراغ، وانطلاقاً كذلك من أهمية عدم الاستسلام للمحاولات الخبيثة الرامية إلى تشويه تاريخنا والتحقير من رموزنا للوصول فى النهاية لطمس هويتنا حتى تسهل السيطرة علينا لتحقيق مصالح بعينها، لذا سأذهب معكم فى زيارة سريعة للماضى، تاركين أجسادنا فى الحاضر لأنها لا تستطيع ولن تقدر، ولكننا سنذهب معاً حاملين معنا الفكر لأنه يستطيع ويقدر ومعه التأمل.
المشهد الأول:
عندما نشرت الصحف لأول مرة صورة بكى فيها الزعيم عبدالناصر وكذلك رئيس مجلس الوزراء على صبرى ووزير الخارجية محمود رياض، وذلك عندما كان يتسلم أوراق اعتماد السفير سامى الدروبى كسفير لجمهورية سوريا فى الأول من سبتمبر 1966م أى بعد الانفصال، حيث بكى السفير «الدروبى» حينها وهو يقول:
«... يحز فى نفسى أن تكون وقفتى هذه كأجنبى، كأننى ما كنت فى يوم مجيد من أيام الشموخ مواطناً فى جمهورية أنت رئيسها، إلى أن استطاع الاستعمار متحالفاً مع الرجعية أن يفصم عرى الوحدة الرائدة فى صباح كالح من أصباح خريف حزين يقال له 28 أيلول... ولكن عزائى فى هذه الوقفة التى تطعن قلبى يا سيادة الرئيس، والتى يمكن أن تشعرنى بالخزى حتى الموت، أنك وأنت تطل على التاريخ ترى سيرته رؤية نبى وتصنعه صنع الأبطال».
قالها «الدروبى» بصوت متهدج وهو يبكى، وبكى معه عبدالناصر وهو يستمع إلى كلماته..
وقد يتفق بعضنا أو يختلف على (الوحدة بين مصر وسوريا) فى الفكرة أو فى استراتيجية وأدوات تنفيذها، إلا أن هذا الموقف رغم بساطته يوضح طبيعة العلاقة التاريخية والوثيقة التى تربطنا بسوريا، كما يؤكد الموقف المصرى الشريف الداعم دائماً لوحدة الأراضى السورية، واحترام إرادة الشعب السورى فى اختيار رئيسه. ومع المشهد الثانى سيكون للحديث بقية فى مقالنا المقبل بإذن الله.