منذ وعينا على الدنيا فى السبعينات ونحن نتابع هذا الجدل الذى لا يتوقف بين ثنائية «تحديد النسل» و«تنظيم النسل»، وآخرها ما قاله أستاذنا الدكتور عبدالمنعم فؤاد -وهو عالم جليل وفاضل نقدّره ونحترمه وله لدينا مكانة خاصة- على شاشة قناة «دريم» من أن الإسلام مع التنظيم وليس التحديد!
تنظيم النسل يعنى فترات متباعدة بين الطفل والذى يليه حرصاً على صحة الأم، والتحديد يعنى الاقتصار على عدد قليل من الأطفال. الأول يعنى استخدام الوسائل الطبية لتباعد فترات الإنجاب، والثانى يعنى استخدام ذات الوسائل للاكتفاء بعدد قليل من الأطفال. ورغم أن الوسائل واحدة فى الأمرين، ورغم أن إرادة الله هى النافذة فى الحالتين، ورغم أن قدر الله هو مقدّر الأمرين، فإننا لا نعرف سر موافقة الأزهر على التنظيم ورفضه للتحديد؟! فالتنظيم تحديد أيضاً، إلا إن كان الأزهريون يقصدون بالتنظيم منح الأم وقتاً لتسترجع صحتها ثم تعود لتنجب من جديد بعد فطام الرضيع، وهذا يعنى أن زوجة تزوجت فى سن الثمانية عشرة لها أن تنجب حتى الأربعين على الأقل أحد عشر طفلاً بمعدل طفل كل عامين!
الأزهريون يعتقدون أنهم بذلك يدافعون عن نصوص كتاب الله العزيز الحكيم وأنهم بذلك يحمون الشرع والدين نفسه من «الضياع» رغم أنهم أول من يعلم أن رب العزة سبحانه وتعالى تعهّد بحفظ كتاب الله ودينه، لكن لم يزل الفرق كبيراً لدى الكثيرين منهم بين الجمود والانحياز للتفسيرات الصحيحة للنصوص القرآنية أو حتى للأحاديث النبوية الشريفة، وإن خاطبناهم وذكّرناهم بمجمل أو أغلب القواعد الفقهية الشهيرة مثل «أينما تكون المصلحة فثم شرع الله» أو «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، وغيرهما من القواعد التى تؤكد أن معيار مصلحة المجتمع الإسلامى هو أساس الاجتهاد لأن المصلحة هى أصلاً جوهر التشريع الإسلامى، لم تأتِ النصوص القرآنية لتعاقب الناس وإنما جاءت لترتب حياتهم وتنظم شئونهم وتحمى حياتهم وأموالهم وأعراضهم من الآخرين!
الأزهريون، أو كثير منهم، يفتى للناس بحكم عمر فى الطلاق وقد جعل طلاق الثلاث فى المرة الواحدة ثلاث طلقات، أى من يقول لزوجته: «أنت طالق.. طالق.. طالق» تُعتبر ثلاث طلقات، حتى إن ابن عباس يقول: «كان الطلاق فى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا فى أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم»، ورغم أن النص القرآنى يقول: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ»، إلا أن اجتهاد أمير المؤمنين موجود حتى اليوم، كما أن الجميع يعرف اجتهاد عمر رضى الله عنه فى نصيب المؤلفة قلوبهم، وكان لهم نصيب بنص القرآن، والآية واضحة صريحة ولا تقبل أى لبس أو تأويل، حيث يقول رب العزة: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ...». ورغم أن النص قطعى لا غموض فيه فإن أمير المؤمنين أدرك روح النص وهو أنه أُنزل والمسلمين ضعفاء يؤلفون قلوب القبائل غير المسلمة بمنحهم نصيباً من الزكاة، ألا وقد انتهى ذلك وأصبح الإسلام قوياً ولا يحتاج المسلمون لتأليف قلوب أحد فألغى عمر نصيبهم!!
كثيرة هى اجتهادات أمير المؤمنين، ربما من أشهرها، ويلتزم به رجال الأزهر الشريف، صلاة التراويح التى كان الناس يؤدونها فرادى فى المسجد حتى قال: «إنى أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أفضل»، وهو المعمول به حتى اليوم رغم أنه اجتهاد منه رضى الله عنه، ومعنى ذلك أنه لم يكن موجوداً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا فى عهد أبى بكر!
وإن جمعنا اجتهادات عمر رغم أننا نمر عليها سريعاً لاحتجنا عدداً خاصاً من هذه الصحيفة دون أن ننتهى، لكن الخلاصة أننا ندعو علماء الأزهر إلى اتخاذ أمير المؤمنين عمر مثلاً أعلى وقدوة حسنة يجب الاقتداء بها.. ليس طبعاً بتكرار ما فعله حرفياً، بل بإعمال العقل مثله وعدم الخوف من الاجتهاد، واليقين مثله أن «الأعمال بالنيات» وأن نتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: «من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر»، ونتذكر دعوته عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عباس حين دعا له وقال دعوته الشهيرة: «اللهم فقهه فى الدين»، وهى الدعوة التى استجيبت وصار ابن عباس ترجمان القرآن!
أما أن تبقى بلادنا، وبعد سنوات طويلة بلغت الأربعين من سوء التخطيط وعدم استغلال الموارد، تحت رحمة الزيادة السكانية الرهيبة التى تبتلع كل شىء أو على الأقل الجزء الأكبر من أى تنمية وبما يهدد مصالح هذا الوطن وشعبه ويؤخر تقدمهم ويعطل انتقالهم إلى حياة كريمة مثل باقى الشعوب الأخرى ثم تظل الفتاوى فى هذا الشأن كما هى منذ أربعة عشر قرناً كاملاً ويزيد فنكون وبحق أمام مأساة كبرى.. وهى مأساة كبرى لا علاقة للدين بها، فالقرآن الكريم لا ينطق بلسان كما يقول الإمام على كرم الله وجهه.. وإنما ينطق بلسان من يفسره ويفتى به ويفهم نصوصه، ومنهم من يقف عند ظاهرها، ومنهم كعمر بن الخطاب، من يفهم حكمة الله منها.