لا تكف «السوشيال ميديا» عن إدهاشنا يوماً بعد يوم؛ وها هى بعدما تمركزت فى موقع الأهمية الأكبر لقطاعات الشباب فى مجتمعنا، تملأ الدنيا وتشغل الناس بتداعيات استخدامها السلبية على الخصوصية، قبل أن تفاجئنا بأنها أصبحت أيضاً «منصة انتحارية».
تعطينا «السوشيال ميديا» ميزات غير قابلة للمساومة، على صعيد التبادل الثقافى، والتسهيلات العلمية، وتوفير الوقت اللازم للبحث والتواصل، والتكلفة الرخيصة للاتصال، وتعزيز الروابط الاجتماعية وعلاقات القرابة، وتأطير الرأى العام حول القضايا ذات الطابع العمومى، لكنها فى المقابل تفرز مخاطر نوعية، ترتفع معها تكاليف عوائدها ارتفاعاً كبيراً. لقد تحدث بعض العلماء والباحثين المتخصصين فى متابعة تطورات «السوشيال ميديا» وتأثيراتها فى المجتمع عن نشوء مصطلح جديد قابل للاستخدام والدراسة؛ وهو ببساطة: «انتحاريو السوشيال ميديا». لا يخص هذا المصطلح طبقة من المتعصبين دينياً، الذين يذهبون إلى «الاستشهاد» مدفوعين بالهوس، والتحريض، وانسداد الأفق، والتأويلات الأيديولوجية المأفونة، ولا يسعى إلى إلقاء الضوء على آليات التجنيد السيبرانى التى تتبعها الدول والمنظمات الراعية للإرهاب والمنخرطة فى أنشطته، أو فحص السمات النفسية لهؤلاء المُغرَّر بهم، ولكنه يتعلق ببساطة بهؤلاء الذين دفعتهم أنشطتهم على مواقع «التواصل الاجتماعى» إلى إنهاء حياتهم، لأسباب لا تتصل بتصوراتهم الأيديولوجية أو مواقفهم السياسية.
يعتقد علماء الاجتماع أن مفهوم العلاقات الاجتماعية ينشأ نتيجة «التفاعل بين شخصين يشغلان موقعين اجتماعيين داخل الجماعة أو التنظيم أو المؤسسة»، كما يشير معظمهم إلى أن التواصل يُعد ركيزة أساسية وآلية جوهرية لتحقيق هذا التفاعل.. فكيف يمكن أن يقود هذا التواصل إلى الانتحار؟
فى صيف عام 2016، اهتز المجتمع البريطانى إثر نشر الأنباء عن انتحار المراهقة «فيبى كونوب»، البالغة من العمر 16 عاماً، شنقاً، بعد نشر صورة لها على موقع «إنستجرام»، كانت قد التقطتها لنفسها، بعدما أجرت تغييرات على لون بشرتها، ليصبح مائلاً إلى الصفرة، فى محاكاة ذات طابع عنصرى لأصدقائها من الجنس الآسيوى.
لم تتحمل «كونوب» الإهانات التى تعرضت لها من مستخدمى الموقع، بعدما تسربت الصورة إليه، وتم التفاعل معها على نطاق واسع، ووجه إليها كثيرون العبارات المحرجة والمسيئة.
قبل هذا التاريخ بنحو عقد كامل، حدثت واقعة مشابهة لمراهقة أمريكية، تبلغ من العمر 13 عاماً، وتُدعى «ميجين ميير»، حيث كانت «تتواصل اجتماعياً» على أحد المواقع مع شخص قدم نفسه لها باعتباره شاباً، قبل أن تعرف أن هذا الشاب لم يكن سوى جارتها التى تضمر لها مشاعر عدوانية، وقد استغلت تلك الأخيرة حصاد «التواصل» السابق فى التشهير بـ«ميجين» وإهانتها وإذلالها، بشكل فاق قدرتها على التحمل، ودفعها إلى التخلص من حياتها.
وفى أبريل من العام 2015، أقدمت مراهقة فرنسية، تبلغ من العمر 14 عاماً، على اتخاذ القرار نفسه، عبر إلقاء نفسها من الطابق الرابع، فى البناية التى تسكن فيها، بحى «لورسا»، فى ضواحى باريس، بعدما وجدت أن مقاطع فيديو مُسربة للقاء جنسى جمعها بصديق قد غزت «يوتيوب»، ومعها تعليقات مهينة ومذلة وموجة عارمة من السخرية.
يموت شخص كل 40 ثانية جراء حوادث الانتحار حول العالم، وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن 800 ألف يفقدون حياتهم سنوياً عبر الانتحار؛ وهو أمر يدعو إلى الأسف بكل تأكيد، لكن ما يجعل الأمر مقلقاً أن الإحصاءات نفسها تُظهر ارتفاعاً لافتاً لمعدل الانتحار بين الأصغر سناً، خصوصاً هؤلاء فى الشريحة العمرية ما بين 15 إلى 29 عاماً.
وفى الوقت الذى يمثل فيه الانتحار السبب الخامس عشر بين أسباب الوفاة للبشر عموماً فى جميع الأعمار، فإنه يأتى كثانى سبب عندما يخص الأمر شريحة الشباب والمراهقين.
لا ترتفع معدلات الانتحار بين الشباب فى العالم الغربى فقط، ولكنها ترتفع بالوتيرة ذاتها فى المجتمعات الشرقية، وقد أظهرت بيانات أجهزة الإحصاء الوطنية ارتفاعاً فى تلك المعدلات فى السنوات العشر الأخيرة فى كل من مصر، وتونس، والسعودية، والهند، ودول أخرى كثيرة.
تشكو الحكومة الأمريكية من ارتفاع «مقلق» فى معدلات انتحار الفتيات بين 10 إلى 14 عاماً، من نصف شخص لكل مائة ألف فى العام 1999 إلى 1.5 شخص لكل مائة ألف فى 2014، بنسبة زيادة 200%. ويتفق باحثون، منهم مدير وحدة الطب النفسى فى مستشفى «زاكر هيليسايد»، قرب نيويورك، «فيكتور فورناى»، و«روث سازرلاند»، رئيسة مؤسسة «ساماريتان للوقاية من الانتحار» على أن كلمة السر فى ذلك الارتفاع المطرد ليست سوى «التنمر السيبرانى» Cyber Bullying، الذى يستهدف خصوصاً الشباب فى تلك الشرائح، الذين لا يمتلكون القدرة والحماية اللازمة لمواجهة الضغوط المتولدة عنه. ثمة عديد من الإيجابيات لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعى لليافعين؛ ومنها التفاعل، وبناء العلاقات الجديدة، وتوسيع المدارك، والتبادل الثقافى، والحصول على المعلومات، واستيفاء المتطلبات الدراسية، لكن فى المقابل هناك سلبيات ومخاطر بدأت تقلق مراكز البحوث والحكومات، بعدما بات مستقراً فى النسق البحثى والمعرفى المتعلق بتلك المواقع أنها «قادرة على أن تتحول إلى منصة للتنمر»، وأن «التنمر مرتبط بالسلوك الانتحارى» لدى شرائح اليافعين، كما يؤكد «المركز الأمريكى للوقاية من الإصابة».
ويُعرّف «التنمر السيبرانى» باليافعين بأنه محاولة لاستغلال تقنية الاتصالات والمعلومات للوصول إلى أهداف إجرامية بحق صغار السن، عن طريق الرسائل العدوانية، والإفصاح عن المعلومات ذات الطبيعة الحساسة، وتعمد الإهانة، والسخرية، والمضايقة، والإحراج. يصف بعض الباحثين «التنمر السيبرانى» بأنه نوع من «البلطجة الإلكترونية»، التى تتضمن وسائل شتى؛ منها التسخيف، وإرسال الصور الإباحية، وتركيب الصور عبر وضع وجه المُتَنمَر به على جسد عارٍ أو جسم حيوان، وغيرها من الممارسات، التى تؤكد الدراسات أن 42% من اليافعين الناشطين على مواقع «التواصل الاجتماعى»، فى الولايات المتحدة يتعرضون لها.
يعتقد الباحثون على نطاق واسع أن «العزلة» العائلية التى يسببها الانخراط فى أنشطة «السوشيال ميديا» للمراهقين، والتى تبقيهم بعيدين عن أعين أوصيائهم، أحد أهم أسباب تفاقم أثر الضغوط والتهديدات الآتية عبر تلك المواقع؛ إذ تشير دراسات موثوقة إلى أن 4 من أصل كل 6 من الأهل ليس لديهم أى فكرة عما يفعله أولادهم على «الإنترنت» فى الولايات المتحدة، وأن 50% من المراهقين الذين يستخدمون الشبكة فى أوروبا لا يتمتعون بأى إشراف أو رقابة من الوالدين.
يبدو أن لدينا طبقة جديدة من الانتحاريين؛ وهى طبقة تنشأ بين جنبات حياتنا الاجتماعية، التى تركت أبناءنا يعانون الانعزال والوحدة، بلا دعم أو مساندة فى مواجهة وحش جديد يُدعى.. «التنمر السيبرانى». سنكون معنيين فى مصر بتلك التطورات بكل تأكيد، خصوصاً أن الطريقة التى نتفاعل بها عبر «السوشيال ميديا» تحمل الكثير من سمات التنمر، وهى سمات تكتسب أبعاداً جديدة بعدما يتم خلطها بصيغة «البلطجة» التى تنتشر فى الشارع والمدرسة والسوق التجارية.
كثير مما نقرأه ونبثه عبر «السوشيال ميديا» يمثل «بلطجة إلكترونية» كاملة الأركان، وهو أمر مثير للاستياء وينذر بمخاطر كبيرة.