فى إحدى حارات سنغافورا المتواضعة، ترعرعت فتاة لحارس إحدى العمارات السكنية، وامرأة تبيع مأكولات شعبية على قارعة الطريق. رحل والدها مبكراً وتركها لمعترك الحياة، ما بين ارتيادها لأروقة المدرسة، ومساعدة أمها فى خدمة عملائها على بسطة مشروعها البسيط، وتوليها أعباء المنزل منذ ساعات الفجر الأولى حتى كادت تُطرد من مدرستها لتأخرها المتكرر. ولولا أن العظماء عصارة التجارب المؤلمة، لما أصبحت تلك الفتاة التى تحملت صعوبات الحياة وتحدّت شَظف العيش رئيسة دولة سنغافورا اليوم، أقوى اقتصادات العالم. نعم، عن حليمة يعقوب أتحدّث.
لم تخضع السيدة حليمة لوطأة الظروف، بل امتلكت زمام قيادة نفسها إلى حيث الأحلام التى طالما لازمتها فى الصّغر، فنالت درجتى البكالوريوس والماجستير فى القانون، ثمّ خاضت غمار العمل النقابى عام 1978، ولتميّزها فى هذا المجال؛ نالت مقعداً فى البرلمان باسم حزب العمّال عام 2001، ثمّ تقلّدت منصب رئيسة البرلمان عام 2013، وتولّت قبل ذلك منصب «وزيرة الدولة لشئون تنمية المجتمع والشباب والرياضة».
ولأن المناصب فى الدول التى تسلك درب البناء والشفافية والنزاهة والعدالة لا تُسند إلا عن استحقاق وجدارة، تقلّدت حليمة يعقوب منصب رئاسة سنغافورا، فكانت -وحُقّ لها أن تكون- أوّل امرأة تتولّى رئاسة البلاد بعد 5 رؤساء ذكور منذ انفصال سنغافورا عن ماليزيا عام 1965، لتتولى صلاحياتها المتمثّلة فى إقرار التعيينات فى الوظائف العامة، والحدّ من هيمنة الحكومة على الاحتياطى النقدى، والتحقيق المباشر فى قضايا الفساد، والرقابة على تطبيق القوانين، والسيطرة على الأمن الداخلى ومنح الموافقة على ميزانيات المؤسسات الحكومية أو حجبها، كلّ تلك المهام فى يد امرأة مسلمة فى بلاد لا تتجاوز نسبة الأقليّة المسلمة فيها 14%، بعكس المعتقد السائد بأن رئاسة سنغافورا ما هى إلا منصب فخرى، الذى تغيّر بعد التعديلات الدستورية عام 1991.
هذا الحدث لا يعتبر استثنائياً إلا فى البلدان المتقادمة، بينما تعتبره الدول المتقدّمة أمراً عادياً ويجرى فى سياقه الطبيعى، فحليمة يعقوب لم تتسلّق إلى المنصب بالواسطة والمحسوبية، ولا حتى عن طريق البرلمان المنتخب كما كان يحدث قبل التعديلات الدستورية، وإنما بانتخابات شعبية مباشرة، وفى دولة تتربّع على عرش اقتصادات العالم بعدما كانت مجرّد جزيرة جرداء لا تتجاوز مساحتها 720 كيلومتراً مربعاً، يملأها البعوض والمستنقعات؛ استقلت عن بريطانيا ثم انضمت للاتحاد الماليزى الذى تخلّى عنها بعدما اعتبرها عبئاً عليه. واليوم تعتبر ثالث أكبر مركز لتكرير وتجارة النفط فى العالم، وتمتلك الميناء الأكثر ازدحاماً فى العالم، ويصل متوسّط دخل الفرد فيها وفقاً لإحصاءات عام 2016 لما يقارب 65 ألف دولار سنوياً، أى ما يعادل 3 أضعاف دخل الفرد فى إيطاليا، و13 ضعف دخل الفرد فى ليبيا؛ المفارقة أن سنغافورا لا تمتلك ذهباً ولا نفطاً ولا موارد طبيعية، هى فقط راهنت على رأس المال البشرى وعلى الإنسان قبل المكان، فبدأت رحلتها التنموية من هوة سحيقة إلى أعالى القمم باختيار الأشخاص المناسبين لقيادتها، فما أشبه «حليمة» بسنغافورا.
حليمة التى تحمل اسمَ أب من أصول هندية، ووُلدت من رحم امرأة من أصول ملاوية، والمتزوجة من رجل أصوله من اليمن السعيد، حليمة الأم لخمسة أولاد ورئيسة دولة سنغافورا، لديها حلمٌ دفين أن يأتى اليوم الذى يكفّ فيه السنغافوريون عن السؤال عن الأصول العرقية لمن يتعاملون معه، وهى تَعِدُ بأن تكون رئيسة لكل البلاد بكل أعراقها وأطيافها وأحزابها ودياناتها. تلك هى قصة السيدة حليمة السنغافورية.