على الرغم من عشقى الشديد لتلك الساحرة المستديرة.. ذلك العشق الذى ربما يجعلنى كثيراً ما أترك كل ما يشغلنى من أجل مباراة مهمة لمعشوقى النادى الأهلى أو للمنتخب القومى.. فإنها ربما تكون المرة الأولى.. التى تتملكنى الشجاعة لأكتب عن كرة القدم..!
الفكرة أننى لا أثق أننى أفهم فيها جيداً.. لست كهؤلاء الذين أجلس ساعات لأستمع إليهم عقب كل مباراة فى كل القنوات الرياضية.. لأجد أنهم قد حولوا لحظات المتعة التى نعيشها إلى الكثير من الخطوط والأسهم على أوراق بيضاء.. واستغرقوا فى تفسير كل لحظة مرت من عمر المباراة ساعات مطولة.. إنهم يعنون ما يقولون بكل تأكيد.. ولكن الأمر لم يكن ممتعاً أبداً بالنسبة لى..!
ولكن الأمر يختلف كثيراً هذه المرة.. فما حدث فى ليلة الأحد السعيد لا يتعلق بكرة القدم التى نعرفها.. بل لا يتعلق بكرة القدم التى يعرفها أحد من الأساس!
لم تكن مباراة المنتخب القومى مع نظيره الكونغولى مجرد مباراة تحسم تأهل المنتخب لاحتفالية كأس العالم الذى غاب عنه لعقود فحسب.. لقد كانت ملحمة وطنية بالمعنى الحرفى للكلمة..!
لقد بدأت المباراة قبل موعدها الحقيقى بأيام طويلة.. بدأت حين اجتمع المصريون كلهم على هدف واحد للمرة الأولى منذ فترة ليست بالقصيرة.. حين انتشرت الأعلام المصرية على النوافذ وأسطح السيارات فى مشهد كدنا أن ننساه.. لقد كان الهدف واضحاً جلياً.. وهو البحث عن الفرحة التى ينتظرها المصريون كثيراً.. ويستحقونها حتماً..!
والواقع أننى لم أجد فى المباراة نفسها ما يستحق أن أكتب عنه.. ولكننى وجدت مشاهد كثيرة على هامش الليلة ما يستحق أن نقف أمامه.. ونتأمل..
المشهد الأول هو صورة المدرب «الأرجنتينى» -الذى اختلف عليه الكثيرون- وهو يردد النشيد الوطنى مع باقى الجهاز الفنى بحماس شديد.. لقد تحول هذا الرجل من مدرب محترف إلى مصرى صميم يحمل مصر فى قلبه.. لقد قرر أن ينتمى إلى هذا الوطن.. ربما أكثر من انتماء البعض الذين يحملون جنسيته.. دون أن يحملوه بداخلهم!!
والمشهد الثانى هو مشهد أيقونة المنتخب محمد صلاح فى لحظة الهدف الذى منى به مرمانا قبل النهاية بدقائق معدودة لقد وقع على الأرض حزناً.. ولكنه لم يلبث أن وقف مرة أخرى.. وأخذ يشجع زملاءه ويصرخ فى حماس هستيرى.. ونجح بالفعل فى أن يعيد الأمل للجميع.. بعد أن كانوا قد استسلموا للواقع المرير.. والواقع أن ذلك المشهد تحديداً يمكن أن يتم تدريسه فى محاضرات التنمية البشرية كنموذج مثالى لرفض الانكسار.. وتحويل الهزيمة إلى نصر.. بالإرادة وحدها!
والمشهد الثالث هو أحد المشجعين من متحدى الإعاقة.. الذى ترك كرسيه المتحرك الذى يجلس عليه عقب هدف الفوز.. وأخذ يقفز فرحاً على قدم واحدة.
لقد جسد هذا المشجع الإرادة المصرية كلها بتلك اللحظة.. لقد صور الشعور الجمعى المصرى كله بجسده.. وأعطى درساً عملياً للعالم كله.. أنه لا شىء يقهر هذا الشعب متى أراد.. حتى الإعاقة الجسدية..
لقد كانت الليلة كلها حلماً صيفياً جميلاً.. حلماً جمع أكثر من مائة مليون مصرى على هدف واحد.. ربما لم يتحقق إلا بإرادتهم مجتمعين!
لقد كانت مباراة للتاريخ.. سأحكى لأولادى وأحفادى عليها كثيراً..
سأقص لهم كيف انتصرت إرادتنا.. كيف فرحنا.. كيف جعلنا أرجنتينياً لا يتحدث العربية أن يهتف بالنشيد الوطنى.. وسأقص لهم متى كتبت للمرة الأولى -وربما الأخيرة- عن معشوقتى.. كرة القدم!