إنجاز العاصمة الإدارية الجديدة جبار.. وما يجرى على صعيد الطرق عظيم.. وجهود الرئيس والوزراء لجذب استثمارات من شرق الأرض ومغاربها هائلة، وتستحق الإشادة والتقدير.. ومؤتمر شرم الشيخ المقبل حاجة فخيمة خالص على ما يبدو.. وقباب الماسة الذهبية المتصاعدة هنا وهناك بهيجة وجميلة.. وحركة المعمار الموجهة لمتوسطى وضعاف ومعدومى الدخل تستدعى الاعتراف بالإنجاز والتفاؤل بما هو آتٍ.
لكن ما هو آتٍ لا ولن يستوى مع عربة بحمار وتوك توك محتار وتروسيكل طيار.. كما لن ينصلح مع سيارة قرر صاحبها أن يطمس رقماً من أرقامها أو يمحو فوانيسها بطلاء أسود أو ينزع لوحة أرقامها برمتها، وأخرى اعتبر صاحبها سيره عكس الاتجاه حقاً مكتسباً من مكاسب ثورية أو حرية شخصية من حريات لم ينص عليها دستور أو قانون، وثالثة يقودها «عيّل» يرى أبوه أن أصول التربية الحديثة والتنشئة الجميلة تملى عليه أن يطلق علينا «الننوس».. وما هو آت لن تقوم له قومة فى مدينة أصبحت قاعدتها المرورية الوحيدة المعمول بها «حلق حوش» أو «أنا ومن بعدى الطوفان».
وإذا كان الطوفان وغيره من الكوارث الطبيعية يمكن تطويق آثارها المدمرة والسيطرة على عوارضها السلبية عبر تكاتف الجهات المختصة وتفهم جموع المواطنين، فإن طوفان الغابة المرورية -التى تعكس تدنياً أخلاقياً عارماً وتحللاً سلوكياً طاغياً فى مجتمع يدعى زوراً وبهتاناً أنه متدين بالفطرة- لا يجد من يواجهه أو يجابهه أو حتى يعلن أنه متضرر منه. حتى غالبية المتضررين الذين يسقطون كل يوم على الطريق بين قتيل وجريح ومتضرر من خسائر مادية كبرى لا يعتبرون ما جرى جريمة كاملة الأركان يتحملها من تسبب فى وقوعها، ألا وهى الجهة المنوط بها تطبيق قواعد المرور عبر القوانين.
قوانين الطبيعة التى يحاول كثيرون خرقها عبر أساليب قيادة هوجاء خرقاء عوجاء، ومعها القوانين السماوية التى نخرقها على مدار الساعة بينما نمسك بالسبحة فى يد ونتوضأ باليد الأخرى، ونغطى زجاج السيارة الخلفى بعبارات دينية بالبنط العريض، بالإضافة إلى القوانين الوضعية التى هى من صنع الإنسان تصاب بالشلل ويضربها الخرس حين تطل من مخابئها على منظر شوارعنا ومياديننا.
شوارعنا ومياديننا التى وصل بها الحال إلى ما هى عليه حالياً بفعل سكتة حركية ودماغية وقلبية أصابت القائمين على أمر تفعيل القوانين، وترك الأمور لمن فقدوا عقولهم أو فاتهم قطار التربية أو دهسهم هسهس التديين الذى لا يحوى سوى مظاهر فقط لا غير، أو اعتبروا العيث فى الأرض فساداً حقاً مكتسباً، غير قادرة على استيعاب استقبال استثمار، أو التعامل مع مشروعات كبرى، أو حتى التعايش مع مفاهيم ومنظومات وأفراد اعتادت العيش فى بلدان ذات شوارع يحكمها قانون المرور وليس قانون الغاب.
قانون الغاب الذى ضرب شوارع مصر وأبناءها فى مقتل مع فتح أبواب حصول كل من هب ودب على رخصة قيادة، وترك آلاف -إن لم يكن ملايين- المركبات تسير دون تراخيص قانونية (التوك توك، والسيارات السوزوكى الثُّمن نقل والمرخصة ملاكى والعاملة أجرة، والدراجات البخارية والتروسيكل)، بالإضافة إلى غض البصر تماماً عن جرائم تعدى السرعات والقيادة الجنونية «دونت ميكس» وقوانين الاستثمار وقواعد التنمية والتطور والتقدم.
وها نحن أمام حلم كبير آخذ فى التفعيل اسمه العاصمة الجديدة. فهل سنغامر بنقل الـKnow how فى شئون البلطجة وأمور الهمجية وأصول العشوائية إلى شوارعها؟ وهل سنتجاهل حقيقة مُرة اسمها أن شوارعنا قد تدعشنت؟! وهل بيننا من هو قادر على أن يخلى مسئولية إدارة المرور من دماء القتلى والجرحى على الطريق؟ وهل من يخرجون علينا من هذه الإدارة على أثير الإذاعة والتليفزيون لـ«يناشدوا السادة قادة السيارات توخى الحذر وعدم تعدى السرعة المقررة والتزام الحارة المرورية» يصدقون ما يقولون؟ وهل المناشدة تصلح مع سائق الميكروباص الأهوج والملاكى الأرعن والسوزوكى الأخرق؟! أو ستؤتى المرجو منها مع قائد مركبة طفل لا يفقه شيئاً؟! وعن أية مناشدة يتحدثون إذا كان هناك من يقدم على نزع لوحة أرقام السيارة ويسير بها نهاراً جهاراً ولا يجد من يقول له ثلث الثلاثة كام؟ وأخيراً وليس آخراً وبصراحة شديدة، هل الضباط أنفسهم قدوة تحتذى بسياراتهم وأسلوبهم فى القيادة؟
قيادة مصر نحو العام الـ18 من الألفية الثالثة أمر رهيب صعيب.. لكن من استطاع أن ينجز ما تم إنجازه فى العاصمة الجديدة من إنجازات تشبه المعجزات، قادر كذلك على ضبط المرور وربطه، المرور غير المضبوط الذى يحصد آلاف الأرواح ويسيل دماء آلاف أخرى لن يجذب استثماراً أو يقيم عاصمة جديدة أو قديمة. ومثلما نجح الأمن والمسئولون فى تأمين وتنظيم مباراة مصر والكونغو دون خروقات، هم أيضاً قادرون على ضبط المرور لنصعد من الغوغائية التى نرتع فيها إلى وش دنيا علَّنا نلحق بمن كانوا وراءنا بسنوات طويلة.
سنوات طويلة تغاضى فيها كثيرون عن القانون.. نمت وترعرعت أجيال تعتقد أن ما يجرى فى الشوارع هو العادى والطبيعى. وليس من الحكمة أو الرجاحة أن ننتقل إلى العاصمة الجديدة بـ«عبلنا». وليس من العدل أو الإنصاف أن نترك العاصمة القديمة على هذه الحال كذلك. وليس من الإنسانية أن نتغاضى عن دمائنا ودماء أهلنا وأصدقائنا وهى تراق على الطريق دون داعٍ. وليس من المسئولية أن يُترك المتقاعسون عن أداء عملهم فى ضبط الشارع وهم يكتفون بلجنة مرورية هزيلة هنا، أو ونش سيارات يقف هو نفسه فى الممنوع هناك.
الوضع الراهن قوة طاردة للاستثمار وإراقة دون وجه حق للأرواح والممتلكات.