المحقّق أن مصر خاضت معركة انتخابات «اليونيسكو» بشرف كبير، هذا ما قالته السيدة الفرنسية «آزولاى»، مدير عام «اليونيسكو» الجديد، لكن هذا الكلام الصادق لا يمنعنا من توجيه بعض النّقد البنّاء والموضوعى لهذه المعركة من منطلق أن مصر (كبيرة)، ولا يجب أن تقع فى أخطاء تجعلها قزماً بين أقزام!
أول هذه الأخطاء هو السؤال: لماذا الإصرار على السفيرة مشيرة خطاب؟
ألم يكن من الأولى توسيع دائرة الاختيار، لا سيما أنّ الكفاءات فى مصر لا حدود لها فى مجالات التربية والعلوم والثقافة والاتصال والآثار، وهى مجالات عمل «اليونيسكو»، باعتبارها منظمة إقليمية تابعة للأمم المتحدة.
السؤال الثانى: لماذا الإصرار على أن يكون المرشح من الخارجية المصرية، حتى لو كان فوق سن المعاش؟
أقول ذلك وفى ذهنى -من خلال تجربة معيشة- أن الخارجية المصرية تصر على أن يكون بعض المواقع فى المنظمات الدولية حكراً عليها..
مندوب مصر الدائم لدى «اليونيسكو»، هذا المنصب الذى كان يشغله أساتذة القانون يوماً، وربما أساتذة السياسة، مثل الراحل فتح الله الخطيب، وزير الدولة الاتحادى السابق، والراحل مأمون سلامة رئيس جامعة القاهرة الأسبق.. أخذت الخارجية المصرية تحارب من أجل السطو على هذا المنصب، حتى أصبح اليوم حقلاً تابعاً لها، فكان فيه الدبلوماسى اللامع محمد سامح عمرو.
ثم معهد العالم العربى فى باريس فى زمن رئاسة إدغار بيزانى، الفرنسى الذى أدرك أن المعهد أُسس عندما كانت مصر بعيدة عن المنطقة العربية، بسبب اتفاقية «كامب ديفيد» والسلام مع إسرائيل، لكن بعد أن عادت مصر إلى العرب، أو الأدق أن العرب قد عادوا إلى مصر، تساءل إدغار بيزانى: كيف لا يكون بلد طه حسين عميد الأدب العربى، مديراً لهذا المعهد، وأبرق من فوره رسالة بهذا المعنى، وطلب من الحكومة المصرية أن تُرشّح شخصاً لغوياً أو تربوياً أو أديباً لشغل منصب مدير معهد العالم العربى، فما كان من الحكومة المصرية سوى أن رشّحت سفيراً، هو الراحل عبدالحميد بدوى، فرفض إدغار بيزانى، وأبرق ثانية إلى مصر، لافتاً النظر إلى أن مدير معهد العالم العربى هو منصب ثقافى وليس سياسياً، وطلب ترشيح شخص آخر، فمن وجهة نظره أن مصر مليئة بالمثقفين والأكاديميين، فأصرت الحكومة المصرية على اختيارها ورشحت مرة أخرى السفير ذاته. فما كان من إدغار بيزانى إلا أن اتّصل بالمغرب الذى رشح له الدكتور محمد بنونة، أستاذ الأدب العربى فى جامعة محمد الخامس بالرباط.. وضاع من مصر هذا المنصب، بسبب إصرار الخارجية المصرية على شغله دونما أدنى اعتبار إلى أنه منصب ثقافى وليس سياسياً.
ثم انطلقت النوايا الشريرة للخارجية المصرية إلى منصب مدير عام «اليونيسكو»، وكان الأولى بها ألا تُرشّح شخصاً من الخارجية بعد أن علمت أن قطر العربية كانت أعلنت عن ترشيح أحد أبنائها، وهذا الأمر يحيلنى إلى الخطأ الثانى، وهو يتعلق بالسؤال: أين جامعة الدول العربية؟ وإذا توسّعنا فى السؤال، وقلنا: ما عمل هذه الجامعة؟ وأين الدور التنسيقى الذى كان لا بد أن تقوم به فى هذا الشأن؟
الشىء المؤسف أن المنطقة العربية رشّحت خمسة أفراد من قطر ولبنان والمغرب ومصر والعراق، وكان الأولى أن تقوم الجامعة بالتنسيق بين الدول العربية، أسوة بالدول الأخرى، الأكثر تحضّراً، التى اختزلت مرشحيها فى شخص واحد، مثل الدائرة الأوروبية والدائرة الآسيوية وغيرهما.
لكن تقاعست جامعة السيد أبوالغيط عن عمل أى شىء، ولم نسمع صوتها، وكأن هذه الانتخابات حدثت فى كوكب المريخ، وليس فى كوكب الأرض.
الخطأ الثالث هو الخلط المتعمّد بين شخص المرشح المصرى ومصر الكبيرة، بحيث أن أى نقد لشخص المرشح أياً كان، يطال مصر أيضاً، وهذا لعمرى خلط متعمّد يجعل معظم أقلام النقد مرتعشة، فمن منا يجرؤ على نقد حضارة مصر وتراثها الإنسانى اللامحدود.
وأقول إن الخارجية المصرية ألقمت أصحاب الأقلام حجراً -عن عمد- حتى تضمن لنفسها أن أحداً لن يجرؤ على الحديث عن مرشح الخارجية الذى أعتقد -وهذا مع اعتراف بتقديرى واحترامى لمرشحة الخارجية المصرية- أنه لو تحركنا قليلاً فى مسألة الترشيح فجئنا بالدكتور زاهى حواس، أو الدكتور إسماعيل سراج الدين، أو الدكتور الإدارى الناجح جابر نصار، ربما لكنا من النجاح أقرب، لكن ما الحيلة، وقد أصرت الخارجية على رأيها، وأرادت أن يكون هذا المنصب حكراً عليها وحدها.
لا بد أن نعترف بأن الخارجية المصرية تتحمّل مسئولية هذا الاختيار، ثم تقاعس جامعة أبوالغيط يجعلها شريكة فى المسئولية التى سوف نعانى نتائجها بعض الوقت!
لقد حبس المواطنون المصريون أنفاسهم طوال أيام الانتخابات وظلت عيوننا شاخصة نحو باريس لعدة أيام مع قلوب تدق سريعاً، ثم جاءت النتيجة مُخيّبة لآمال كثير من المصريين.
فمصر استطاعت أن تستعيد هيبتها الدولية فى زمن قصير، وأن تُحقّق إنجازات فى ثلاثة أعوام، كان لا بد أن تتحقق فى ثلاثين عاماً، واحتلت عدة مواقع دولية، مثل لجنة مكافحة الإرهاب بالأمم المتحدة، وكذلك شغلت عضوية غير دائمة فى مجلس الأمن، وعضوية لجنة الأمن والسلم فى الاتحاد الأفريقى، وكان يمكن لو أدرنا المعركة بشكل احترافى ومحايد وموضوعى أن نكون على رأس منظمة «اليونيسكو».
لقد أخطأنا للمرة الثالثة، لأن مشيرة خطاب سارت على خُطى فاروق حسنى، وجاءت لمصر بأذيال الخيبة، وسبقهما إسماعيل سراج الدين الذى تخلّت عنه حكومة «مبارك»، فكان الخسران من نصيبه الأكبر، أما عن جامعة نبيل العربى التى أصبحت جامعة أبوالغيط فلم تفعل شيئاً.