نستكمل اليوم ما بدأناه فى المقال السابق فى ما يخص مجموعة من الافتراءات الروسية، التى أطلقتها بعض المواقع الإخبارية الرئيسية، يقدم البعض منها باعتبارها المقربة أو لسان حال النظام. هذا الإطلاق الذى يبث بلغات عدة، منها العربية، جاء بمناسبة حلول ذكرى حرب أكتوبر، ويخص وقائع بعينها «يدعى» الجانب الروسى، أنها دارت فى غضون الجهد العسكرى لتلك الحرب.
الشكوك والأسئلة التى يطرحها النشر المعلوماتى الروسى، تبدو أقرب إلى الذهن مما تكشفه من حقائق، كما سمّاها الجانب الروسى، كونه أخيراً يكشف النقاب عنها. فعلى سبيل المثال؛ التساؤل الأولى عن توقيت النشر الذى أتى بعد (44 عاماً) من الحرب، فى الوقت المعلوم فيه قرار الرئيس السادات الذى اتّخذه يوليو 1972م، والخاص بـ«استغناء» مصر عن خدمات الخبراء العسكريين الروس، والقرار برحيلهم فى أسرع وقت ممكن. هذا القرار المصرى فى حينه، تم اعتباره قبل وبعد الحرب نزولاً حاداً بمستوى العلاقة بين البلدين، وهاجمه الكثيرون ووصمه العديدون بأنه انقلاب «ساداتى» على معادلات التحالف الإقليمى والدولى. واستمرّت شريحة عريضة من ألد خصوم الرئيس السادات، تصف وتؤرّخ لهذا القرار بأنه كان «عربوناً» لعلاقات مستقبلية مع الولايات المتحدة، رغم ما ذكره لاحقاً هنرى كيسنجر فى مذكراته: «لماذا لم يقل لنا السادات ما كان ينوى فعله؟ ربما لو أبلغنا مسبقاً، لكنا قدمنا له شيئاً فى المقابل، فى السياسة كما فى كل شىء آخر، فإن لا أحد مستعداً لدفع ثمن لشىء حصل عليه بالفعل».
ومع ذلك؛ ظل القرار سجين هذا التفسير، حتى رحيل الرئيس السادات، وبعده بسنوات، لم يدخل عليه أى مستجد معلوماتى. وتناول خصوم «السادات» من العسكريين الذين خاضوا الحرب فى مناصب قيادية، وغيرهم ممن خرج من المشهد قُبيل الحرب، قرار خروج الخبراء الروس والتخفيض الحاد فى شكل التعاون بين البلدين، بالنقد تارة، وتأييده من الوجهة العسكرية تارة أخرى. لكن ظلت تلك الآراء والتقييمات العسكرية محل تقدير وانتباه، خصوصاً أنها أجمعت فى مجملها حتى بالنسبة إلى المنتقدين، أن العمل العسكرى للحرب بقى مصرياً خالصاً اعتباراً من هذا التاريخ، وحتى ساعة الصفر فى أكتوبر 1973م.
بالوقوف أمام قيادات الجيش المصرى، وما ذكروه فى كتابات طازجة سُطرت بعد حرب أكتوبر مباشرة، أخص بالذكر منهم ثلاث شخصيات: «الفريق أول محمد فوزى» وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، فى الفترة من 11 يونيو 1967 إلى 16 مايو 1971، وله كتابان هما «حرب الثلاث سنوات، وحرب أكتوبر»، فى الأول وثّق وقيّم تجربته فى قيادة حرب الاستنزاف، وفى الثانى وضع له عنواناً فرعياً يدل على ما تناوله عسكرياً فيه «دراسة ودروس». الثانى هو «الفريق سعد الشاذلى»، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، فى الفترة من 1971 إلى 1973، وله كتاب شهير بعنوان «حرب أكتوبر» طبعت منه عشرات الآلاف من النُّسخ، لما له من قيمة، فضلاً عن الرّصد الكامل لوقائع وكواليس حرب أكتوبر، التى أدارها بكفاءة، وأورد فيه القصة الكاملة «من وجهة نظره» لوقائع خلافه مع الرئيس السادات حول الثغرة وإعفائه من منصبه. الثالث هو «المشير عبدالغنى الجمسى»، رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة من عام 1972، وشغل المنصب ذاته فى أثناء حرب أكتوبر، قبل أن يتم ترقيته خلالها ليشغل رئاسة أركان الحرب، وبعدها وزيراً للحربية، كتب مذكراته الثمينة بعنوان «مذكرات الجمسى حرب أكتوبر 1973»، وفيها تفصيل كامل لوقائع الحرب بشهادة من عاصرها فى «غرفة عمليات القوات المسلحة».
هؤلاء القادة العظام لم يترك أىٌّ منهم معلومة واحدة تخص حرب أكتوبر، إلا وكان الأقرب، إما لصناعتها أو الاطلاع عليها، أو الأقدر على تحليلها وسبر أغوارها. كلٌّ من الفريق أول فوزى، والفريق الشاذلى، خصومتهما مع الرئيس السادات وصلت إلى مدى بعيد جداً، وخلافهما السياسى والعسكرى معه موثّق، ومعلوم أيضاً. وكلاهما انتقد واختلف مع طريقة الرئيس السادات فى إدارة العمليات العسكرية، وهذا مما هو وارد ومقبول، فى عمل بضخامة أحداث حرب أكتوبر، كما أن هناك آخرين انحازوا إلى رؤية الرئيس السادات، ووجدوه قد صنع انتصاراً حقيقياً. ويظل حكم التاريخ هو الفيصل بين الرأيين، من دون الشك بأن كليهما كان يهدف إلى تحقيق انتصار للوطن وتحرير الأرض.
الادّعاءات الروسية تحاول أن تُقحم نفسها فى أحداث تلك الأيام المجيدة، باصطناع أدوار لم تقم بها، ولم يرد ذكر لها من قريب أو من بعيد فى مذكرات قادة الحرب أو فى الوقائع السياسية لتلك الحقبة. إلا إن كان الروس يريدون القفز على الحقائق، واعتبار كل ما تم قبل الحرب وتم توثيقه فى حينه من تباعد حقيقى فى ما بين القرار المصرى والإسهام العسكرى الروسى، نوعاً من الخداع الاستراتيجى قام به الرئيس السادات، ليسمح لهم أثناء عملياتها العسكرية بالقيام بمهام فاعلة فيها. وهى فرضية «خيالية»، لا تستند إلى شهادة واحدة إلا ربما الرواية الروسية الأخيرة ذاتها، التى تُناقض المنطق قبل التاريخ المكتوب!
ما يمكن اعتباره فى هذا السياق معاونة وشراكة حقيقية لها رواية معلوماتية موثّقة، تمثّلت فى جهد «ليبى» له علاقة بالقوات الجوية المصرية، وظل سرّياً بالكامل رغم فائق أهميته وتعقيداته، حتى الوصول إلى ساعة صفر انطلاق الضربة الجوية الأولى. وهناك اشتراك «سعودى» فى العلم بقرار خوض الحرب، قام به الرئيس السادات بنفسه للملك فيصل بن عبدالعزيز فى أغسطس 1973م، حيث وضعا «وحدهما» تصوّراً لإدارة «المملكة» للمشهد السياسى الإقليمى والدولى فى فترة العمل العسكرى ضد إسرائيل. وتبقى المساهمة العسكرية المباشرة لكل من «العراق، والجزائر، والسودان»، بوحدات عسكرية انضمّت إلى الجبهة المصرية بعد أيام من اندلاع الحرب، وتفاوتت المهام التى ألقيت على عاتق تلك القوات المتنوّعة، ما بين المشاركة فى عمليات محدودة بعينها وبعض الإسهامات الشرفية أو مهام التعزيز الاحتياطى للبعض منها.