لدىّ قناعة لا أستطيع تغييرها مهما حدث، وهى أن العلم هو نقيض الرومانسية والأحلام، وأن لديه قدرة كبيرة على تحطيم جميع نظريات الجمال وتحويلها إلى مسخ لا يُرجأ منه أى لمحة من ماضيه، كما أن لغة أصحاب العلم تختلف تماماً كمفردات ومعان وتلميحات وإسقاطات بل ونكات أيضاً عن لغة الشعراء والكتاب والفنانين، وكنت وما زلت أتعجب من أعضاء جماعة الحرافيش، وهو الاسم الذى أطلقه أديبنا نجيب محفوظ على شلة الأصدقاء الذين اعتادوا اللقاء الأسبوعى معه فى جلسة أدبية ودودة على نيل القاهرة شتاء وبحر الإسكندرية صيفاً، أقول أتعجب أنه من بينهم أطباء وأساتذة جامعات إلا أنه يبدو أن محفوظ استطاع بموهبته وتلقائيته أن يجمعهم ويوحد المصطلحات بينهم، ولا عجب فى ذلك فصاحب نوبل جمع لنا الواقعية والرومانسية فى العمل الواحد ولم نشعر بأى دهشة بل عشنا مع كل شخصياته واستمتعنا بها وأرضت جميع الأذواق.
ولأن القمر كان وما زال صديق الأحبة والعشاق والشعراء، وبرغم ما قيل عنه من رجال الفضاء والعلماء الذين وطئت سطحه أرجلهم مما عذب العشاق وأشعرهم بالقلق على ونيس ليالى السهر وصديقهم، فأرجو من يقرأ كلماتى من هؤلاء العشاق أن ينساها بعد الانتهاء منها ويحافظ على وجه القمر فى عينيه وقلبه كما رآه فى ليالى السهر وألا ينسى أبداً ملامح حبيبه التى شاهدها تقترب منه وتلاحقه من فوق سطح القمر، الذى شعر أنه يعدو خلفه ويكاد يسبقه فى تلك الليلة القمرية صافية السماء، فمن أجمل ما كتبه الفلاسفة فى وصفهم للقمر وعلاقته الوثيقة بالبشر (أن المحب يبدو كسائق سيارة يمشى بها فى السهل الواسع ويرى القمر أمامه مطلاً عليه من فوق الجبل فيسرع ليدرك القمر والقمر مكانه لا يتحرك) وهذا هو جمال الحب الذى يضع المستحيل أمام عيون العشاق ليحلموا به.
وفى بداية الحديث عن القمر أقول لكم إن هناك أمّماً كثيرة تتخذ من القمر تقويماً لحساب شهورها، ومنهم الهنود واليهود والصين وبلاد فارس القديمة، إلا أن العرب هم أشهر أمّم العالم اعتماداً على القمر فى تقويمهم منذ بدء تاريخهم وحتى الآن، والشهر القمرى هو المدة التى يتم فيها القمر دورة كاملة حول الأرض، وتقاس عادة من مولده إلى مولده التالى، ويتعين هذا المولد بوقوع القمر بين الأرض والشمس فى خط مستقيم عند بعض الناس ويتعين عند آخرين برؤية الهلال رؤية بصرية عقب مولده بعد غروب الشمس، ومن أجل ذلك فإن ابتداء الشهر القمرى عند المسلمين يختلف وينحصر هذا الخلاف فى تحديد معنى رؤية الهلال، لكن لا يوجد خلاف فى التحديد الفلكى كمبدأ الشهر.
ولعشاق القمر يقول علماء الفلك إن هذه الاختلافات حول رؤية القمر جعلتهم يعرفون أربعة أشكال للقمر، فهناك الشهر القمرى (الحقيقى) والشهر القمرى (الوسطى) والشهر القمرى (الاصطلاحى) والشهر القمرى (الشرعى).
ويقول أهل الفلك إن الشكل الأول ليس له فترة محددة ثابتة بل تتراوح فترته بين ٢٩ يوماً و١٩ ساعة فى بعض الشهور، و٢٩ يوماً و٥ ساعات فى شهور أخرى، أما النوع الثانى فمدته الزمنية ثابتة لكل الشهور، ومقدارها ٢٩ يوماً و١٢ ساعة، وعادة تكون شهور النوع الثالث هى الفردية و٣٠ يوماً، بينما تكون الزوجية ٢٩ يوماً، إلا أنه يضاف يوم إلى شهر ذى الحجة فى السنة الكبيسة فيصير ٣٠ يوماً، ومن ضمن المعلومات الفلكية عن القمر أن الشهر القمرى يحدث بنظام دقيق متكرر كل شهر بعد (الاقتران) ثم (الإهلال) وفق سُنة (بضم السين) كونية ثابتة لا تدخل للبشر فى حدوثها مطلقاً، إنما يمكنهم مراقبة أشكال القمر المختلفة ومعرفتها وحسابها والتفريق بينها، كما أن تقسيم السنة القمرية لاثنى عشر شهراً هو تقسيم طبيعى ناتج عن اكتمال ١٢ دورة للقمر.
وعندما يقول العربى رأيت الشهر فمعناها أنه رأى الهلال، وقال الإمام الرازى (إن الشهر عبارة عن حركة القمر من نقطة معينة من فلكه الخاص إلى أن يعود إليها مرة أخرى)، هذا وقد ذكرت لفظة الشهر بالإفراد فى القرآن الكريم اثنتى عشرة مرة، جاء نصفها تماماً بالصيغة المعرفة والنصف الآخر بالصيغة غير المعرفة شهر أو شهراً.
ونقلة سريعة للعلم والعلماء لنقول إن القمر عانى كثيراً منهم وإنهم أبكوا العشاق حزناً على الوهم الذى عشقوه، وذلك فى ستينات القرن الماضى، ففى ٢٠ يوليو عام ١٩٦٩ وصلت بعثة أبولو١١ التابعة للولايات المتحدة الأمريكية لسطح القمر، لتكون أول مهمة بشرية تهبط على سطح القمر، وكان (نيل آرمسترونج) أول إنسان يخطو بقدميه على أرض الحب والمحبين، وليتابعه ٤٥٠ مليون شخص ويستمعوا إليه من خلال راديو صوت أمريكا بشكل مباشر عبر هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» والكثير من الإذاعات الأخرى حول العالم، وقد سجل التاريخ كلماته عندما قال (إنها خطوة صغيرة لإنسان لكنها قفزة جبارة للجنس البشرى) واصفاً بذلك خطواته على سطح القمر، وقد لحقه بعد لحظات (إدوين ألدرين) زميل رحلته ليكون ثانى إنسان تطأ قدماه سطح القمر، ونصبا معاً العلم الأمريكى، ووضعوا لوحاً كتب عليه (للمرة الأولى وصل بنو البشر من الكرة الأرضيّة إلى القمر فى هذا المكان فى يوليو ١٩٦٩ للميلاد وقد جئنا من أجل السلام باسم كل الجنس البشرى)، وبعدها بلحظات تكلم معهما الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت ريتشارد نيكسون عبر اتصال فضائى، وقال لهما (كل أبناء البشرية فخورون بنجاحكما أشكركما جزيل الشكر)، ومن بعد هذا الهبوط تكررت المحاولات ونجح بعضها وفشل المئات، واخترع العلماء القمر الصناعى الذى لم يشارك قمرنا إلا فى الاسم فقط لأنه صاحب مهام مختلفة تماماً، فقد اخترعوه ليكون جاسوساً من حديد وأسلاك، وليعمل فى مجال الفضاء والإعلام والاقتصاد والبحث العلمى وتحديد الأماكن، وليدور حولنا فى الفضاء إلا أنه سيظل مهما حقق قمراً صناعياً.
وقد بدأت أحزان العشاق عندما أكد رواد الفضاء أنهم شاهدوا القمر كوكباً مظلماً لا حياة فيه ولا جمال، وظلت هذه السمعة السيئة تلاحق القمر والمحبين لفترة، إلا أن الرومانسيين وأتباعهم سرعان ما نسوا وعاد المحب يدلل حبيبته بكلمة قمر، وإذا أراد أن يزيد من الدلال فهى قمره وحده، وبطبيعة الحال استمر الشعراء فى الكتابة للقمر والمطربين فى الغناء له، وسيظل هو أكثر رموز الغزل شهرة، ويكفى أن نزار قبانى قال محدثاً حبيبته (كتبت أحبك فوق جدار القمر) وما زالت أجمل الليالى هى الليلة القمرية وما زالت فيروز بصوتها الساحر هى جارة القمر.