لمن لا يعلم أقول إننى بكل فخر أم لضابط من عيون مصر، وما زلت أذكر أول يوم له وهو فى طريقه لوحدته العسكرية بعد تخرجه فى الكلية الحربية (مصنع الرجال) فقد أحسست أن ابنى هو قلبى يسير على الأرض، وهو نفس الإحساس الذى ملأنى يوم رأيته بين ذراعىّ لأول مرة وليداً صغيراً تنبض به حياة خرجت من رحمى، ولأنه قلبى فقد كنت أشعر بالفزع من أن يصيبه أى مكروه، خاصة عندما ترك أحضانى لأول مرة وبدأ يبحث عن العالم من حوله، وكانت تجربته الأولى أن يتعلم المشى وحده، وسرعان ما عرف معنى الحياة وصدماتها وهو يرتطم بالأرض فى محاولاته الجميلة للسير أو للمس كل ما كان يجده بعيداً عن متناول أنامله الصغيرة وهو بين ذراعىّ. وقتها كنت أشعر أن قلبى يؤلمنى مع كل ارتطام وكأنه يسقط معه ويتلقى الصدمات، وأن الكدمات تصيب ذلك القلب الذى خرج من مكانه منذ أحسست بمشاعر الأمومة، وكنت أتعجب كيف لا تشفى هذه الكدمات وينتهى ألمها إلا عندما يتخلص منها صغيرى ويطيب، تذكرت تلك اللقطات عندما رأيته يبكى زملاءه الذين ذهبوا ضحية الإرهاب والخيانة، وبكيت ككل المصريين على تلك القلوب التى سارت فى الصحراء أياماً فى دوريات تعلمهم معنى التحمل والرجولة، وقفزوا فى تلك الترعة الشهيرة (ترعة الإسماعيلية) ليقتلوا أى خوف يمكن أن يهاجمهم فى يوم ما، وألقوا بهم من الطائرات وهم ما زالوا طلاباً فى مصنع الرجال، ليقفزوا وتحملهم المظلات كما لو كانت ملائكة تحيط بأجسادهم حتى يصلوا للأرض بسلام، وينطلقون يومياً فى ماراثون الجرى وكأنهم يطاردون قوى الشر التى تصيب وتقتل من يصلون إليه منهم الآن، تلك القلوب هم أبناء مصر، عيونها، وقلبها النابض.
عن عيون مصر أقول إن مصر حزينة، قلبها ينزف ويبكى، ولكن لا بد أن تسير الحياة من أجلها، فهى الوطن الذى تعلمنا كتابة اسمه فى أول عام لنا فى المدرسة فكتبنا مصر هى أمى.
مصر هى الوطن الذى قال عنه جمال حمدان فى كتابه (شخصية مصر) «إن الوطن علاقة بين الجغرافيا والتاريخ وإنه دراسة فى عبقرية الزمان والمكان»، كما ذكر حمدان أن «الوطن هو الحضارة وإبداع الإنسان عبر القرون»، كما عرج على أن «الوطن عبارة عن مشاعر ومن يعرف المعنى الحقيقى للوطن يتولد فيه الانتماء إليه وتتولد عنده طاقة إيجابية تحثه على العمل والإنتاج والتفاؤل رغم كل الأزمات والمشاكل»، وكما قال عنه البابا شنودة «إنه المكان الذى يعيش فيه الإنسان منذ ولادته أو الذى يدفن فى ثراه عندما تدق فيه المنية أبوابه».
ولعشق الوطن تاريخ لا ينتهى، فقد ذُكر فى كتب التاريخ السياسى ومصطلحاتها أن تعريفه يحتمل مفاهيم كثيرة، ولذلك فإنه من الصعب إيجاد كلمات تضم المفهوم الحقيقى له، وحتى لو ذُكر أنه مسقط الرأس أو البيت أو الارتباط التاريخى أو حتى الجهة التى تنتمى لها الشعوب المتمدنة والبدائية فسيظل الأمر صعباً، وما يزيد صعوبته أن الوطن شىء وجدانى يميل للعاطفة أكثر من العقلانية، كما تتخلله بعض الخصائص التى ترتكز بشكل رئيسى على الحب وما يتضمنه من أشكال الاحترام والانتماء والفخر السياسى والاجتماعى، وقد يكون على شكل قصائد نتغنى بها بالوطن وبالدفاع عن الحرية فيه، أو على شكل شعور بالحماسة عند سماع الأغانى الوطنية.
وقد راعت الشريعة الإسلامية حب الإنسان الفطرى لوطنه ومحل نشأته وتعلقه به، فورد فى ذلك العديد من الآيات والأحاديث النبوية، فقد ذُكرت كلمة الديار بمعنى الأوطان فى قوله تعالى «الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله» سورة الحج الآية ٤٠، حيث ربط الديار ونسبها للمؤمنين الذين خرجوا من وطنهم لشدة ارتباطهم وتعلقهم به حساً ومعنى، كما قال تعالى «قالوا وما لنا ألا نقاتل فى سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا» سورة البقرة الآية ٢٤٦، كما حوت السنة النبوية أمثلة على حب الوطن وقيمته فى النفوس، لعل أشهرها موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ضاقت عليه الحال فى مكة من أذى المشركين وتكذيبهم ما أضطره للخروج منها فقال «أما والله لأخرج منك وإنى لأعلم أنك أحب بلاد الله إلىّ وأكرمه على الله ولولا أهلك أخرجونى ما خرجت).
وبطبيعة الحال فقد شغل حب الوطن الشعراء والفنانين فقال عنه محمود درويش (وتسأل ما معنى كلمة وطن سيقولون هو البيت وشجرة التوت ورائحة الخبز والسماء الأولى) وقال (هو البسمة التى تؤنس المواطن وهو المفردة التى لا تضاهيها كلمة، وهو جوهرة ثمينة لا تقدر بثمن، وهو انتماء وهوية وأصالة، وهو الروح والمدرسة التى تجعلنا نتسلح بمعرفة الذات، وهو الانتماء الروحى والجسدى لعمق جذورك وأصلك) ومن أجمل ما قال درويش (إذا ضاع الوطن ماتت الروح وذل الجسد) و(الوطن هو الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض) و(ليس وطنى دائماً على حق ولكنى لا أستطيع أن أمارس حقاً حقيقياً إلا فى وطنى)، وبطبيعة الحال كان نزار قبانى من عشاق الوطن فقال (بلادى لا يزال هواك فى. كما كان الهوى قبل الفطام) و(بلادى هواها فى لسانى وفى دمى يمجدها قلبى ويدعو لها فمى).
أما ابن الرومى فترجم عشقه للوطن بكلمات عاشت للآن بيننا، حيث قال (ولى وطن آليت إلا أبيعه وألا أرى غيرى له الدهر مالكاً) و(بلد صحبت به الشيبة والصبا ولبست ثوب العيش وهو جديد) ومن أجمل ما قاله أيضاً (ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل فى الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل).
ولأننا جميعاً نذوب فى عشق مصر فقد ظلت على طول الزمن هى الكلمة الصادقة التى يكتبها الشعراء، وهى النغمة التى تطرب قلوب المصريين فى أصعب المواقف، وهى النسمة الحانية التى يعود إليها المغترب بعد سنوات وسنوات ليملأ بها صدره وتداعب وجهه، وليغنى لها الجميع (مصر يا مه يا بهية) و(وطنى وصبايا وأحلامى) و(حلوة بلادى السمرا بلادى) و(يا حبيبتى يامصر) و(يا أحلى اسم فى الوجود) و(إن كان على القلب مالوش غيرك) و(ابنك يقول لك يا بطل) و(يا أم الصابرين) فصبراً أحبائى وأهلى على المِحنة التى نعيشها وستعود مصر كما كانت دائماً رائدة عالية قلب الأمة العربية وأم الدنيا.