جاءت تصريحات الأمير محمد بن سلمان الأخيرة لتمثل مفاجأة للكثيرين.. كانت التصريحات فى مناسبة افتتاح مشروع استثمارى وعمرانى جديد هو (نيوم).. كان الأمير الشاب يرسى أسس شرعيته الجديدة فى الحكم وكأن لسان حاله يقول ببساطة إنه صاحب رؤية وخيال يختلفان عن الرؤى التقليدية التى حكمت المملكة لسنوات طويلة.. ولم تكن رؤيته اقتصادية أو استثمارية فقط لكنه أعلن كما بدا للجميع عن رؤية فكرية قال فيها إن التشدد الدينى لن يحكم المملكة بعد الآن.. وتحدث فيها بصراحة عن (إسلام وسطى معتدل ومنفتح على العالم) وقال أيضاً «سنقود مملكة معتدلة ومتحررة من الأفكار المتشددة» و.. «لن نضيع ٣٠ سنة من حياتنا فى التعامل مع أفكار مدمرة.. سندمرها الآن وفوراً».. يحق لى ككاتب مصرى أن أتوقف طويلاً أمام هذا التوجه وأحييه، وأن أرصد أنه توجه مختلف تماماً عن توجه المملكة فى بدايات حكم الملك سلمان بن عبدالعزيز، حيث قرأ الكثيرون رسالة عكسية تماماً لما قيل فى حفل الإعلان عن مشروع «نيوم»..
لقد بدا من إعلان الأمير الشاب عن امتداد المشروع ليشمل استثمارات فى مصر والأردن.. وبغض النظر عن أننى أملك وجهة نظر متواضعة تقول إن الإعلان عن المشاريع المشتركة يكون فى حضور كل أطرافها والشركاء فيها لأسباب منطقية وبروتوكولية معروفة.. بغض النظر عن هذا، فالواقع يقول إن المنطقة ستشهد نوعاً من المشاركة فى الاستثمارات والتبادل بين بلدانها على أصعدة مختلفة.. وفى ضوء الظروف التى تشهدها المملكة أقول إنه آن الأوان أن تصدر مصر أغلى سلعة تملكها للسعودية، وأقول أيضاً إن أغلى سلعة تملكها مصر هى الثقافة المصرية، وهى ذلك التراث الممتد من التنوير عبر أجيال مختلفة من المثقفين المصريين والمتمصرين بدءاً من شبلى شميل وفرح أنطون، وانتهاء بأصغر باحث مصرى شاب يحاول أن يكتب سطوراً جادة فى كتاب التنوير.
لقد أدرك الأمير الشاب أن مجتمعه لا يمكن أن ينطلق اقتصادياً دون أن يتحرر فكرياً ودون أن يحطم قيود الأفكار الوهابية التى حكمت أو شاركت فى حكم المملكة لسنوات طويلة، وكان من آثارها ذلك الطوفان الوهابى الذى اجتاح العالم الإسلامى والمجتمع المصرى مسلحاً بفوائض النفط وبدعم مالى لا حدود له.. إن التحولات التى تشهدها السعودية لا تعنى فقط أن الطريق مفتوح أمام المصريين للتخلص من التشوهات التى أحدثتها السلفية فى الروح المصرية عبر سنوات طويلة، لكنها تعنى أيضاً أننا مطالبون بأن نلبى رغبة المجتمع السعودى الجار لنا فى استهلاك منتج ثقافى وفكرى وفنى يقوده للأمام وليس إلى الخلف.. ولا أظن أنه يليق بمصر وبتاريخ الثقافة المصرية ونحن نرى ثقافات غير عربية أو غير مصرية تتسارع لتلبى ذلك (الطلب) الجديد على الثقافة فى المملكة العربية السعودية، وهى سلعة كانت محرمة هناك حتى وقت قريب ولَم تعد كذلك.
إننى لا أظن أننا حتى هذه اللحظة قد جهزنا (بضاعتنا) التى أمامنا فرصة ذهبية لتصديرها كى تستعيد مصر مكانة كانت لها بالفعل، فى عالمها العربى أو فى دولة هى أهم دولة على الإطلاق.. إننا حتى الآن لم نقدم فقهاً وسطياً معتدلاً، ولَم نبذل محاولات جادة لتقديم إسلام وسطى معتدل.
إننا حتى الآن لا نقدم الميزانية الكافية لوزارة الثقافة المصرية حتى تستطيع تقديم منتج ثقافى محترم، رغم أن ميزانية الثقافة المصرية هى ضرورة استراتيجية لا تقل أهمية عن غيرها من الضرورات، من علامات عدم الاستعداد أيضاً أننا ما زلنا حتى الآن محكومين بتراث الوهابية وبنفوذها وتأثيرات أموالها فى الوسط الثقافى المصرى ومؤسسات الثقافة المصرية، وإلا فلتقل لى بالله عليك أين الطبعات الجديدة من كتب مفكرين مصريين مثل د. زكى نجيب محمود ود. فؤاد زكريا؟ وأين الطبعات التذكارية لمؤلفات رجال مثل فرح أنطون أو شبلى شميل؟ وأين أعداد مجلة التطور التى كانا يصدرانها مثلاً؟ ولماذا لا تصدر وزارة الثقافة المصرية وهيئة الكتاب الأعمال الكاملة لمفكر مثل د. نصر أبوزيد أو لكاتب مثل الراحل فرج فودة؟
إذا كان لى أن أستخدم لغة الاقتصاد فإننى أقول إن الثقافة المصرية (سلعة) زاد الطلب عليها فى سوق مهمة هى (السعودية) فوجب أن نهتم بها ونزيد من خطوط إنتاجها.
وإذا كان لى أن أعبر عما أؤمن به فإن الثقافة المصرية (رسالة) مصرية للعالم العربى، والسعودية جزء منه، وقد كان قدر مصر دائماً أن تفى برسالتها تجاه عالمها العربى..
ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.