أبوذر الغفارى من الشخصيات الفريدة فى تاريخ الإسلام. انتمى إلى قبيلة احترف أهلها قطع الطريق على القوافل، وعمل أبوذر معهم فى ما يعملون، تمتّع بكل ما ينبغى أن يتوافر فى قاطع طريق من جرأة وجسارة وقدرة على تحمّل المصاعب والمواجهات، ويبدو أن إقدام أبى ذر على السرقة عبّر عن حالة مبكّرة من حالات الاحتجاج، فقد عاش مستفزاً بما فى يد الأغنياء من ثروات، وكان يؤمن بأنه ما كنز غنى إلا بما حرم فقير. يقول ابن سعد فى «طبقاته» عن أبى ذر: «كان أبوذر رجلاً يصيب، وكان شجاعاً، ينفرد وحده بقطع الطريق، ويغير على الصرم فى عماية الصبح على ظهر فرسه أو قدميه، كأنه السبع، فيطرق الحى، ويأخذ ما أخذ، ثم إن الله قذف فى قلبه الإسلام، وسمع مقالة النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ يدعو مختفياً، فأقبل يسأل عنه».
آمن أبوذر برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، بمجرد أن جلس معه، ثم أخذ يجاهر بإيمانه. صراحته المفرطة وجرأته فى الحق جعلته يعيش فى الحياة غريباً مهمّشاً، خصوصاً من جانب الحكام. أدرك محمد، صلى الله عليه وسلم، التركيبة الفريدة لشخصية أبى ذر، وما ستجره عليه من متاعب تدفعه إلى العيش وحيداً موحوداً. كان النبى يجلس مع عدد من الصحابة بالمدينة، فلمحوا على البُعد شبحاً مقبلاً فسألوا: من الرجل؟، فهتف النبى: كُن أبا ذر، وقد كان، وعندما تحقّق الصحابة من المقبل، وكان بالفعل أبوذر، قال: ها هو أبوذر، يأتى وحده ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة أمة وحده. دافع أبوذر حياته كلها عن علاقة متوازنة بين الأغنياء والفقراء، ولم يكن ثمة مشكلة فى العلاقة ما بين الطرفين طوال خلافة الشيخين أبى بكر وعمر، لكن الأمر اختلف فى عهد عثمان، إذ بدأت الرأسمالية العربية تطل بعنف، وبدأ أصحاب المال يكتسبون نفوذاً داخل دار الخلافة، ويرجّون أنحاء المدينة بقوافلهم، لذلك كان من الطبيعى أن يكون أبوذر معارضاً شرساً لعثمان بن عفان، وكان من المنطقى أن يعاقبه الأخير على معارضته له. ويختلف الرواة بعد ذلك على الطريقة التى عُوقب بها أبوذر، فقيل إن عثمان جلده ونفاه إلى «الربذة»، وينكر آخرون ذلك، لكن الثابت تاريخياً أن أبا ذر قضى الشطر الأخير من تاريخه منفياً.
نقل ابن سعد فى طبقاته عن «حميد بن هلال، عن عبدالله بن الصامت، قال: دخلت مع أبى ذر على عثمان، فلما دخل، حسر عن رأسه، وقال: والله، ما أنا منهم يا أمير المؤمنين -يريد الخوارج- قال له عثمان: صدقت يا أبا ذر؛ إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة. قال: لا حاجة لى فى ذلك، ائذن لى إلى الربذة. قال: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة، تغدو عليك وتروح. قال: لا حاجة لى فى ذلك، يكفى أبا ذر صريمته، فلما خرج، قال: دونكم معاشر قريش دنياكم فاعذموها (أى فخذوها) ودعونا وربنا». قال عنه النبى: «ما أقلت الغبراء، وما أظلت الصحراء أصدق لهجة من أبى ذر».