فى واحد من أجمل الأفلام السياسية الكوميدية التى أظهرت قبح النفس الإنسانية الضعيفة وعشقها للمناصب وتشبثها بها أبدع الفنان الراحل أحمد زكى وهو يتقمص شخصية معالى الوزير فى الفيلم الذى حمل هذا الاسم، وقد امتلأت القصة والسيناريو بجميع الإسقاطات النفسية والتوريات الأدبية التى يمكن لأى منا أن يرسمها فى خياله على أى شخصية سياسية مرت على مصر فى تلك الفترة القاتمة، التى يشعر المتأمل لما يدور فيها من أحداث متسارعة وكأن أغلب المسئولين نسوا أو يتناسون عن عمد ما تغنى به المبدع (لطفى بوشناق) فى واحدة من أجمل الأغانى الوطنية، التى أبكت جميع الشعوب العربية المنكوبة بمسئوليها وحكامها الذين يبحثون عن حصيلة مناصبهم ولا يبحثون عن تراب الأرض التى ولدوا وعاشوا واستمتعوا بها (أنا مواطن) ويكفى بيت واحد من تلك القصيدة، الذى أشعرنا جميعاً بحجم المأساة (خدوا المكاسب والمناصب لكن خلوا لى الوطن). ونعود لفيلم أحمد زكى لأحدثكم عن معنى ومغزى الحدث الذى فجر الإبداع فى قصة هذا الفيلم، عندما أصيب معالى الوزير بجلطة دماغية أفقدته النطق واختفى صوته، بينما بقى هو على قيد الحياة ليشاهد بعينيه ضياع ثروته غير الشرعية، التى نهبها من أموال مصر بمساعدة منصبه فى البنوك الأجنبية، لأنه أخفاها فى بنوك تفتح الحسابات للعملاء ببصمة الصوت فقط.
أحدثكم الْيَوْمَ عن البصمة، التى كتب عنها أحدهم فقال (لكل إنسان بصمة يمتاز بها عن الغير، البعض بصمته الحكمة، وآخرون بصمتهم الصدق، وأناس بصمتهم العقل، لكن الأخلاق الجميلة تجمع جميع البصمات وتبقى لك بصمة لن تزول حتى بعد رحيلك تمسك بأخلاقك ترتقى وتصبح إنساناً جميل الروح، وجمال الأخلاق يكفى عن جميع البصمات).
ولقد ظهرت البصمة جلية فى علم التنمية البشرية، حيث قامت إحدى الجامعات العربية بتنظيم فعالية تابعة لإدارة الأنشطة الطلابية، تحت عنوان (بصمات الارتقاء) شارك فيها عدد من المتخصصين النفسيين وأساتذة الجامعات، تحدثوا عن الأنماط المختلفة لتنمية الذات وتعميق مفهوم البصمة الذاتية لكل شخص، وأكد الجميع فى هذه اللقاءات ضرورة توسيع مدارك الشباب وتعميق مفهوم التنمية البشرية لديهم، حيث إنه لكل فرد مراحل انتقالية يمر بها تكسبه خبرات وتطور شخصيته، ومن هنا تكون البصمة التى ترافقه طوال حياته.
ولو بحثنا عن معنى كلمة بصمة فى قاموس المعانى العربى فسنجد أنها اسم جمعه بصمات، وأن ترك بصماته تعنى أنه ترك أثراً، أما البصمة الجينية فى علم الأحياء، التى يرمز لها بـ(DN A)، فهى تحليل لعينات أنسجة أو سوائل الجسم للتعرف على الأفراد، أما إذا استخدمنا كلمة بصمة الأصبع فهى تعنى أثر دمغته.
وفى علم الأدلة الجنائية فإنه يمكن القول إنه مضى بالفعل ١٠٠ عام على اعتبار بصمات الأصابع دليلاً جنائياً أمام المحاكم، وقد وصل التطور فى هذا الاستخدام لأن أصبح فى أغلب دول العالم للفرد بصمات مبرمجة على الحواسب سواء الأفراد العاديين أو محترفى الإجرام، وذلك فى السجلات المدنية ومصالح الأدلة الجنائية، وكان الصينيون واليابانيون أول من اتبعوا بصمة الأصابع فى ختم العقود، وفى القرن الـ١٩ استخدم الإنجليز البصمات عندما كانوا فى إقليم البنغال بالهند للتفرقة بين المساجين والعمال هناك، لأنهم اكتشفوا أن البصمات لا تتشابه من شخص لآخر ولا تورث حتى لدى التوائم المتشابهة، لذا أصبح علم البصمات واقعاً فى عالم الجريمة، وفى البداية كانت تضاهى يدوياً وبالنظر بالعدسات المكبرة، أما الآن فإنه يتم وضعها فوق ماسح إلكترونى حساس للحرارة فيقرأ حرارة الأصبع ثم يقوم الماسح بصنع نموذج البصمة ومضاهاتها بالبصمات المخزنة. وهناك ماسح آخر يصنع صورة للبصمة من خلال التقاط آلاف المجسات بتحسس الكهرباء المنبعثة من الأصابع.
وبعيداً عن بصمة الأصبع فقد وصلت التكنولوجيا فى هذا المجال إلى بصمة الشعر وبصمة العرق وبصمة قزحية العين، حيث أمكن تحليل عرق الأشخاص بواسطة التحليل الطائفى للتعرف على عناصره، لأن لكل شخص بصمة عرق خاصة به، وكذلك الشعر حيث اعتبر عام ١٩٥٠ دليلاً أمام المحاكم بعد أن ثبت أنه لا يتعرض للتلف مع الوقت، كما أن أى عينة من الشعر إذا وُضعت فى قلب مفاعل نووى ليطلق عليها النيترونات فستتحول كل العناصر النادرة بالشعر إلى مواد مشعة حتى ولو كانت نسبة المادة جزءاً من مليار جزء من الجرام فى كل شعره، وقد أثبتت التجارب والأبحاث العلمية أنه فى كل شعرة يوجد ١٤ عنصراً نادراً، كما أن واحداً من بين مليار شخص يتقاسمون تسعة عناصر من هذه العناصر.
ويؤكد علماء الطب الشرعى أن كبرى الشركات العالمية بدأت توجه أموالها للاستثمار فى تطوير وسائل الحماية الأمنية عن طريق المقاييس الحيوية، وفى أمريكا على سبيل المثال توجد ماكينات صرف النقود التى تتعرف على العملاء من خلال بصمات عيونهم والتحقق من القزحية، وقد استخدمت السلطات الجنائية الأمريكية هذه التقنية فى إدارات تحقيق الشخصية وهوية الأشخاص منذ عام ١٩٨٠، لأن قزحية العين أشبه ببصمة الأصابع، فلكل شخص بصمته اليدوية والقزحية حتى لو كانت بصمات المواليد، لأن هاتين البصمتين تظلان مع المولود من المهد إلى اللحد ولا تتغيران بالمرض أو الشيخوخة.
والطريف أنه يمكن التعرف على بصمة العينين من خلال كاميرا على بعد ٣ أقدام، ما جعل اليابانيين يستخدمونها فى التعرف على الخيول المشاركة فى السباقات، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل ظهرت فى الأسواق حواسب لا تعمل إلا بعد أن تتعرف أزرارها على بصمة صاحبها، وكذلك مسدسات لا تطلق أعيرتها إلا بعد أن يتعرف زر الإطلاق على بصمة مالكه، وبطبيعة الحال ذكر القرآن الكريم الذى لم يغفل أى معلومة عن الإنسان فى آياته الكريمة البصمة، ففى سورة القيامة قال تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ) الآية ٤٣.
ولا يبقى إلا أن أدعو لكل أحبائى أن يرزقهم الله فى حياتهم بكل ما هو جميل من الأخلاق، ليكونوا من أصحاب البصمات الطيبة على جميع من يعرفهم ويشاركهم الحياة.. أسعدكم الله وأحبتكم.